فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158)

{ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون 158 } .

ابن عباس وهو مقارب لمعنى الصرف ، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ وفي هذه الآية تبكيت لهم عظيم .

{ هل ينظرون } أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا { إلا } أنهم ينتظرون { أن تأتيهم الملائكة } لقبض أرواحهم وعند ذلك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو أن تأتيها الملائكة بالعذاب { أو يأتي ربك } يا محمد كما اقترحوه بقولهم : { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } وقيل معناه يأتي أمر ربك بإهلاكهم ، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيرا كقوله : { واسأل القرية } وقوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل } أي حب العجل .

وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل ، وقال : يأتي في ظلل من الغمام وقيل كيفية الإتيان من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فيجب إمرارها بلا تكييف ولا تعطيل .

{ أو يأتي بعض آيات ربك } الدالة على الساعة قال جمهور المفسرين هو طلوع الشمس من مغربها ويدل عليه ما أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله بعض آيات ربك قال : ( طلوع الشمس من مغربها ) {[727]} قال الترمذي غريب ، وروي موقوفا .

فإذا ثبت رفع التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسها إيمانها ، ثم قرأ الآية ) {[728]} ، وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعا نحوه ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه أيضا .

{ يوم يأتي بعض آيات ربك } التي اقترحوها وهي التي تضطرهم إلى الإيمان ، أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه ، وقيل الآيات هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التي إذا جاءت { لا ينفع نفسها إيمانها } .

والكبرى منها عشرة وهي : الدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ، ونار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر ، والبحث مستوفى في كتابنا حجج الكرامة في آثار يوم القيامة .

{ لم تكن آمنت من قبل } أي قبل إتيان بعض الآيات ، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعضها فإيمانها ينفعها { أو كسبت في إيمانها خيرا } أي لا ينفع نفسا إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيرا ، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان ، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيرا في إيمانه أو كسب خيرا ولم يؤمن فإن ذلك غير نافع .

قال السدي : يقول كسبت في تصديقها عملا صالحا فهؤلاء أهل القبلة ، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيرا فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها وإن عملت قبل الآية خيرا ثم عملت بعد الآية خيرا قبل منها ، وقال مقاتل : يعني المسلم الذي يعمل في إيمانه خيرا وكان قبل الآية مقيما على الكبائر .

أقول ووجه الإشكال في هذه الآية الكريمة هو أن عدم الإيمان السابق يستلزم عدم كسب الخير فيه بلا شك ولا شبهة إذ لا خير لمن لا إيمان له ، فيكون على هذا ذكره تكرارا إن كان حرف التخيير على بابه من دون تأويل ، وأيضا عدم الإيمان مستقل في إيجابه للخلود في النار فيكون ذكر عدم الثاني لغوا ، وكذلك وجود الإيمان مع كسب الخير فيه مستقل في إيجابه للخلوص عن النار وعدم الخلود فيها فيكون ذكر الأول أعني الإيمان بمجرده لغوا .

فهذا وجه الإشكال في الآية باعتبار حرف التخيير المقتضى لكفاية أحد الأمرين على انفراده وقد ذكروا في التخلص عن هذا الاشكال وجوها .

أحدها : أنه يتحقق النفع بأيهما كان ، ولا يخفاك أن هذا تدفعه الأدلة الواردة بعدم الانتفاع بالإيمان من دون عمل .

والوجه الثاني : أنه لا ينفع إلا تحقق الأمرين جميعا الإيمان وكسب الخير فيه ، وهذا أيضا يدفعه المعنى العربي والإعرابي فإنه لو كان هو المراد لقال : لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرا .

الوجه الثالث أن ذكر الشق الثاني من شقي الترديد لقصد بيان النفع الزائد وتحري الأفضل والأكمل ، وهذا أيضا فيه خروج عما يوجبه معنى الترديد الذي يقتضيه حرفه الموضوع له .

الوجه الرابع أن يراد الكلام مرددا على هذه الصفة المقصود به التعريض بحال الكفار المفرطين في الأمرين جميعا ، وهذا أيضا خروج عن مقصود الآية بتأويل بعيد جدا لم يدل عليه دليل .

الوجه الخامس أن الآية من باب اللف التقديري أي لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في الايمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا . ورد بأن معنى اللف التقديري على أن يكون المقدر من مهمات الكلام ومقتضيات المقام فترك ذكره تعويلا على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه ، وليس هذا من ذاك .

الوجه السادس أنهما معا شرطان في النفع وإن العدول إلى هذه العبارة لقصد المبالغة في شأن كل واحد منهما أنه صالح للاستقلال بالنفع في الجملة ، ولا يخفى أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليها ، وإخراج للترديد عن مفاده الذي تقتضيه لغة .

الوجه السابع أن ظاهر الآية المقتضى لمجرد نفع الإيمان يعارض بالأدلة الصحيحة الثابتة كتابا وسنة أنه لا ينفع الإيمان إلا مع العمل وهذا هو الوجه القوي ، والتقرير السوي ، والاستدلال الواضح ، والترجيح الراجح لسلامته عن التكلفات والتعسفات في معنى الآية وعن الإهمال لما فيها من الترديد الواضح بين شقي الإيمان المجرد والإيمان مع العمل .

ولا ينافي هذا ما ورد من الأدلة على نفع الايمان المجرد فإنها مقيدة بالأدلة الدالة على وجوب العمل بما شرعه الله لعباده من أصول الشرائع وفروعها ، فاشدد يديك على هذا ولا تلتفت إلى ما وقع من التدقيقات الزائفة والدعاوي الداحضة ، فإن ذلك لا حامل عليه ولا موجب له إلا المحاماة على المذهب وتقويمها ، وجعل نصوص الله سبحانه تابعة لها ، وتأويل ما خالفها حتى كأنها هي الشريعة المحكمة التي يرد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

ومن العجب أن محققي المفسرين وكبارهم مع ما في هذه الآية الكريمة من الإشكال المقتضى لتوسيع دائرة المقال اكتفوا في الكلام عليها بالنزر الحقير والبحث اليسير ، حتى إن الرازي مع تطويله للمباحث في غالب تفسيره ، اقتصر في تفسيره على قوله . والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف فلم ينفع الإيمان نفسا ما آمنت وما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك انتهى بحروفه .

فانظر هذا الذي اقتصر عليه وجعله موعظة لك فإنه إنما يكون تفسير الآية لو كانت هكذا : لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرا ، من دون حرف التخيير ، وهكذا الزمخشري قبله فإنه اقتصر في تفسير الآية على ما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق .

{ قل } أمره الله سبحانه أن يقول لهم { انتظروا } ما تريدون إتيانه وما عدتم به من مجيء الآيات ، وهذا أمر تهديد على حد { اعملوا ما شئتم } وذلك أنهم لا ينتظرون ما ذكر لإنكارهم للبعث وما بعده { إنا منتظرون } وهو يقوي ما قيل في تفسير { يوم يأتي بعض آيات ربك } أنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة أو إتيان العذاب لهم من قبل كما تقدم بيانه .

قال بعض المفسرين : وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك الوقت ، والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبدا ، وقيل المراد بهذه الآية الكف عن القتال فتكون الآية منسوخة بآية القتال . وعلى القول الأول تكون محكمة .


[727]:البخاري كتاب الفتن الباب 25 – أبو داود كتاب الجهاد الباب 2.
[728]:مسلم 157 – بخاري 73.