المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَوۡمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمۡتَلَأۡتِ وَتَقُولُ هَلۡ مِن مَّزِيدٖ} (30)

وقوله تعالى : { يوم يقول } يجوز أن يعمل في الظرف قوله : { بظلام } ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر .

وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم : «نقول » بالنون ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله : «قدمت وما أنا » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر : «يقول » على معنى يقول الله ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة ، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضاً : «يقال » على بناء الفعل للمفعول .

وقوله : { هل امتلأت } تقرير وتوقيف ، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير ؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها : { هل من مزيد } . فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها : { هل من مزيد } على معنى التقرير ونفي المزيد ، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[10543]} وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل ، ومن قال : إنها كانت غير ملأى جعل قولها { هل من مزيد } على معنى السؤال والرغبة في الزيادة . قال الرماني وقيل المعنى : وتقول خزنتها ، والقول إنها القائلة أظهر .

واختلف الناس أيضاً في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز ؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى :

شكا إلي جملي طول السرى{[10544]} ،

ومجرى قول ذي الرمة :

تكلمني أحجاره وملاعبه{[10545]} .

والذي يترجح في قول جهنم : { هل من مزيد } أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك ، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله لجهنم هل امتلأت ؟ وتقول : { هل من مزيد } حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض »{[10546]} واضطرب الناس في معنى هذا الحديث ، وذهبت جماعة من المتكلمين ، إلى أن الجبار اسم جنس ، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم ، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخراً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :

«إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعاً » ويعظم بدنه على هذه النسبة{[10547]} ، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى ، وهذا هو الصحيح ، فإن في الحديث الصحيح : «فيضع رب العالمين فيها قدمه »{[10548]} وتأويل هذا : ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ، ومنه قول الله تعالى : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم }{[10549]} [ يونس : 2 ] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [ الوضاح الخصي ] : [ المنسرح ]

صل لربك واتخذ قدماً . . . ينجيك يوم العثار والزلل{[10550]}

ومنه قول العجاج : [ الرمل ]

وسنى الملك لملك ذي قدم . . . {[10551]}

أي ذي شرف متقدم ، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك{[10552]} وعن النضر بن شميل{[10553]} ، وهو قول الأصوليين . وفي كتاب مسلم بن الحجاج : ( فيضع الجبار فيها رجله ){[10554]} ، ومعناه : الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس : رجل تشبيهاً برجل الجراد ، قال الشاعر :

فمر بها رجل من الناس وانزوى . . . إليها من الحي اليماني أرجل{[10555]} .

وملاك النظر في هذا الحديث : أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب .


[10543]:هذا جزء من حديث أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال: أصبت شارفا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغنم يوم بدر، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفا أخرى، فأنختها يوما عند باب رجل من الأنصار وأنا أريد أن أحمل عليها إذخرا لأبيعه، ومعي صائغ من بني قينقاع لأستعين به على وليمة فاطمة، وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت، فثار إليهما حمزة بالسيف، فجبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما ثم أخذ من أكبادهما، قلت لابن شهاب: ومن السنام؟-وابن شهاب أحد الرواة-قال: جبّ أسنمتهما فذهب بهما، قال: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر، فخرج ومعه زيد، فانطلق معه، فدخل على حمزة فتغيظ عليه، فرجع حمزة بصره فقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقهقر حتى خرج عنهم، وذلك قبل تحريم الخمر.اهـ. وفي رواية لمسلم أن حمزة كان يشرب ومعه قينة تغنيه، والشارف: الناقة المُسنة، وجمعها: شرف-بضم الشين وسكون الراء، والإذخر: حشيش طيب الريح، وله ثمرة تُطحن فتدخل في الطيب، وجبّ: قطع، وبقر: شقّ، وتغيظ: أظهر الغيظ والغضب.
[10544]:هذا البيت من الرجز في اللسان غير منسوب، وذكر معه بيتا آخر، قال: يقال للبعير إذا أتعبه السير فمد عنقه وكثر أنينه: قد شكا، ومنه قول الراجز: شكا إلي جملي طول السرى صبرا جُميلي فكلانا مبتلى والسرى: السير ليلا، والابتلاء: المحنة تنزل بالمرء ليختبر بها، او الغم والحزن والجهد الشديد في الأمر.
[10545]:هذا عجز بيت قاله ذو الرمة، وهو مع بيت قبله: وقفت على رسم لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه ومعنى أسقيه: أدعو له بالسقيا، وأبثه: أشكو إليه، والبيت كالشاهد السابق يدل على أن العرب قد تنسب القول إلى الحيوان والجماد تجوزا.
[10546]:هذا جزء من حديث أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن حرير، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة)، واللفظ لمسلم.
[10547]:رواه مسلم في "الجنة"، والترمذي في "جهنم"، وأحمد في مسنده(2-26)، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أُذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد).
[10548]:جاء التعبير بـ"رب العالمين" في رواية لمسلم في الحديث الذي خرجناه في الهامش قبل السابق على هذا.
[10549]:من الآية(2) من سورة (يونس)، وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى:{قدم صدق} وذكر أقوالهم ابن عطية في الجزء السابع ص96 وما بعدها، والمختار أن "قدم الصدق" هو ما قدموه من أعمال، وهو الذي اختاره الطبري.
[10550]:قال هذا البيت الوضاح(جَذيمة بن مالك بن فهم التنوخي)، والرواية في القرطبي "صل لذي العرش"، والشاهد أن"قدما" هنا بمعنى ما يُقدمه الإنسان من عمل، يقول: اعبد الله واعمل الأعمال الصالحة فتنجو يوم القيامة. ورُوي عن أحمد بن يحيى أن القَدَم هي كل ما قدمت من خير، ذكر ذلك صاحب اللسان.
[10551]:هذا عجز بيت، وقد ورد البيت كاملا في القرطبي مع اختلاف في الألفاظ قال: زلّ بنو العوام عن آل الحكم وتركوا المُلك لِملك ذي قدم والشاهد هنا أن قوله:"ذي قدم" معناه: ذو سابقة في الأفعال، أو ذي شرف متقدم كما قال ابن عطية.
[10552]:هو عبد الله بن المبارك المروزي، مولى بني حنظلة، ثقة، ثبت، فقيه عالم، جواد مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير، مات سنة إحدى وثمانين، وله ثلاث وستون سنة.(تقريب التهذيب).
[10553]:هو النضر بن شميل المازني، أبو الحسن النحوي، نزيل مرو، ثقة ثبت، مات سنة أربع ومائتين، وله اثنتان وثمانون سنة، (تقريب التهذيب).
[10554]:جاء ذلك في إحدى الروايات التي رواها مسلم رحمه الله.
[10555]:هذا البيت شاهد على أن(الرِّجل) بكسر الراء وسكون الجيم هو الطائفة من الشيء، أو الجمع من الشيء، وقد استشهد به القرطبي، وذكره مع بيت آخر غير منسوبين، قال: يقال رأيت رِجلا من الناس ورِجلا من الجراد، قال الشاعر: فمر بنا رِجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليمانين أرجل قبائل من لخم وعُكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل وفي اللسان:"والرِّجل: الطائفة من الشيء، أنثى، وخص بعضهم به القطعة العظيمة من الجراد، والجمع أرجال...ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه دخل مكة رِجل من جراد، فجعل غلمان مكة يأخذون منه، فقال: أما إنهم لو علموا لم يأخذوا منه، كره ذلك في الحرم لأنه صيد".