المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

قال أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة { السابقون الأولون } من صلى القبلتين ، وقال عطاء { السابقون الأولون } من شهد بدراً .

قال القاضي أبو محمد : وحولت القبلة قبل بدر بشهرين ، وقال عامر بن شراحيل الشعبي{[5852]} : { السابقون الأولون } من أدرك بيعة الرضون ، { والذين اتبعوهم بإحسان } يريد سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان ، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو قال قائل إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولاً يقتضيه اللفظ وتكون { من } لبيان الجنس ، و { والذين } في هذه الآية عطف على قوله { والسابقون } ، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن وقتادة وسلام وسعيد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصارُ » برفع الراء عطفاً على { والسابقون } ، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى : { والذين اتبعوهم بإحسان } وجعل الأتباع عديلاً للأنصار ، وأسند الطبري أن زيد بن ثابت سمعه فرده فبعث عمر في أبي بن كعب فسأله فقال أبي بن كعب { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان } ، فقال عمر ما كنا نرى إلا أنَّا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد ، فقال أبي إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم }{[5853]} وفي سورة الحشر { والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }{[5854]} وفي سورة الأنفال في قوله { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم }{[5855]} ، فرجع عمر إلى قول أبي ، ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه من ذكرهم قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار » فتأمله{[5856]} ، وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار » وقرأ الباقون «تحتها » بإسقاط «من » ومعنى هذه الآية : الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له جعلنا الله من الفائزين برحمته { ممن حولكم من الأعراب } الآية ، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته .


[5852]:-هو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد ونشأ ومات بالكوفة، وهو من رجال الحديث الثقات، وكان فقيها شاعرا، سئل عما بلغ إليه حفظه فقال: "ما كتبت سوداء في بيضاء ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته". توفي سنة 103هـ. (راجع الوفيات، والتهذيب وتاريخ بغداد).
[5853]:- الآية (3) من سورة (الجمعة).
[5854]:- الآية (10) من سورة (الحشر).
[5855]:- الآية (75) من سورة (الأنفال).
[5856]:- هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري وغيره، وقد سبق الاستشهاد به في الجزء الخامس من هذا الكتاب عند تفسير قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم..}.