الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم { وَالأَنْصَارِ } الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وأيّدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة .

وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين ، قال له أُبيّ بن كعب : إنما هو والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وإنه قد كرّرها مراراً ثلاثة ، فقال له : إني والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان ، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد ، قال : حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأُبيّ : أفيهم الأنصار ؟ قال : نعم ولم يستأ من الخطاب ومن ثمّ قال عمر : قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي : بلى ، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال . قوله :

{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الجمعة : 3 ] إلى آخره وقوله تعالى :

{ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] إلى آخر الآية ، وقوله :

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 75 ] ، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب : { وَالأَنْصَارِ } رفعاً عطفاً على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقاً على المهاجرين .

واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم . فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين : هم الذين صلّوا القبلتين جميعاً .

وقال عطاء بن أبي رباح : هم الذين شهدوا بدراً .

وقال الشعبي : هم الذين شهدوا حجة الرضوان .

واختلفوا أيضاً في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّقته . فقال بعضهم : أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى معه علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني .

وقال الكلبي : أسلم علي وهو ابن تسع سنين ، وقال مجاهد وابن إسحاق : أسلم وهو ابن عشر سنين .

وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم : " يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه " .

فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب [ فقالا : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب ] : إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه فضمّه إليه وأخذ العباس جعفراً يضمّه إليه فلم يزل علي ( رضي الله عنه ) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيًّا فاتبعه علي ( رضي الله عنه ) .

فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه .

وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم ، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها ، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم فقال : أمرٌ عظيم . فقلت : ويحك ما هذا ؟ فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب ، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه ، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء .

قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً . فيروي أن أبا طالب قال لعلي ( رضي الله عنه ) : أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال : آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله . فقال له : أما أن محمداً لا يدعو إلاّ إلى خير فالزمه .

وروى عبد الله بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عبّاد بن عبد الله قال : سمعت عليًّا يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كذاب مفتر ، صلّيت قبل الناس بسبع سنين .

وقال بعضهم : أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر ( رضي الله عنه ) وهو قول إبراهيم النخعي وجماعة يدلّ عليه ما روى أبو أمامة الباهلي " عن عمرو بن عنبسة قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ ، قلت : يا رسول الله من تبعك في هذا الأمر ؟ قال صلى الله عليه وسلم : اتبعني رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال " فأسلمت عند ذلك ، فلقد رأيتي إذ ذاك ربع الإسلام .

قال : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله البدخشي يقول سمعت أبا هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول : سمعت غياث بن معاذ يقول : سمعت وكيع بن الجراح يقول : عن إسماعيل بن خالد عن الشفهي قال : قال رجل لابن عباس : مَن أول الناس إسلاماً قال : أبو بكر ( رضي الله عنه ) أما سمعت قول حسان بن ثابت :

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة *** فاذكر أخاك أبابكر بما فعلا

خير البرية أزكاها وأعدلها *** بعد النبي وأوفاها بما حملا

الثاني التالي المحمود مشهده *** وأول الناس منهم صدّق الرسلا

قال بعضهم : أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة ، وهو قول الزهري وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس ، وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي جمع بين الأخبار فيقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة .

قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله . قال : وكان أبو بكر رجلا مؤالفاً لقومه محباً سهلا وكان أنسب قريش لقريش ، أعلم قريش بها وبما كان منها من خير أو شر ، وكان رجلا ( ناجياً ) ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يهابونه ويأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه ، فأسلم على يديه فيما بلغني عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله ، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الاسلام من المهاجرين .

فأما سبّاق الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى فكانوا سبعة ، والثانية كانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد الدار فعلّمهم القرآن ، فهو أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلقٌ من النساء الصبيان ، " وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفذت المشاقص في جوفه ، فاستشهد يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند الله أحتسبه ما رأيت قط أشرف منه لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب ، وإنّ عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما [ جفنة ] من [ طعام ] يأكل ويطعم الناس ، فآثره الله بالشهادة " .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا [ أُهديت إليه طرفة حناها ] لمصعب بن عمير فأنزل الله تعالى فيه :

{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 40 ] الآية ، وأُخذ أخوه يوم بدر أسيراً فقال : أنا أبو غدير بن عمير أخو مصعب فلم يشدد من الوثاق مع الأسرى وقالوا : هذا الطريق فاذهب حيث شئت ، فقال : إني أخاف أن تقتلني قريش فذهبوا به إلى [ . . . ] فيمدّ يده بالخبز والتمر وكان يمدّ يده إلى التمر ويدع الخبز ، والخبز عند أهل المدينة أعزّ من التمر ، والتمر عند أهل مكة أعزّ من الخبز فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير وقالوا له : أخوك عندنا وأخبروه بما فعلوا به . فقال : ما هو لي بأخ ولا كرامة ، فشدّوا وثاقه فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليًّا فأرسلت أمه في طلبه ثمّ أقبل يوم أحد فلما رأى أخاه مصعب بن عمير . قال في نفسه : والله لا يقتلك غيري فما زال حتى قتله وفيه أنزل الله تعالى :

{ فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 37-39 ] ثمّ جمعهم في الثواب فقال { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ } وقرأ أهل مكة : من تحتها الأنهار [ وكذا هو في مصاحفهم ] { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .

قال الحسن بن الفضل : والفرق بينهما أن قوله { تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ } معناه تجري من تحت الأشجار ، وقوله : تجري من تحتها أي ينبع الماء من تحتها ثمّ تجري من تحت الأشجار .

وروي في هذه الآية " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل : أين السابقون ؟ قال معاذ : قد مضى ناس فقال : السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله تعالى "