السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

ولما ذكر تعالى فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وما أعدّ لهم من الثواب بين تعالى أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها بقوله تعالى :

{ والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار } أما من المهاجرين فقال سعيد بن المسيب : هم الذين صلوا إلى القبلتين ، وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر ، وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان ، وقال محمد بن كعب : هم جماهير الصحابة ، وقيل : هم الذين أسلموا قبل الهجرة .

واختلف في أوّل الناس إسلاماً وأوّل من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض العلماء : أوّل من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر واختلفوا في سنه وقت إسلامه فقيل : كان ابن عشر سنين ، وقيل : أقل من ذلك ، وقيل : أكثر ، وقيل : كان بالغاً ، والأكثرون على أنه لم يكن بالغاً وقت إسلامه ، وقال بعضهم : أوّل من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس ، وقال بعضهم : أوّل من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول عروة بن الزبير وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول : أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أربعة سباق الخلق إلى الإسلام .

وأما من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وهي الأولى وكانوا ستة نفر ثم العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلاً ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً فهؤلاء سباق الأنصار ، وقيل : المراد بالسابقين الأوّلين من سبق إلى الهجرة والنصرة ويدل على هذا أنه تعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين لهم أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملاً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما قد صاروا به مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقين الأوّلين في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فإنّ الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله تعالى عليهم ومدحهم { والذين اتبعوهم } أي : الفريقين إلى يوم القيامة { بإحسان } أي : في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقتهم .

وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار ويترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم .

وقيل : بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأوّلين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ) والمدّ ربع الصاع والنصيف نصفه ، والمعنى لو أن أحداً عمل مهما قدر عليه من أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الله ما بلغ هذا القدر الصغير من عمل الصحابة وإنفاقهم لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة ، وعن عمران بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) قال عمران : فلا أدري أذكر بعده قرنين أم ثلاثاً . والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضاً واختلفوا في مدّته من الزمان من عشر سنين إلى عشرين سنة ، وقيل : من مائة إلى مائة وهذا هو المشهور وقيل : من مائة إلى مائة وعشرين سنة ، ثم جمعهم الله تعالى في الثواب فقال : { رضي الله عنهم } فالسابقون مرتفع بالابتداء وخبره رضي الله عنهم أي : بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم { ورضوا عنه } بما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة { وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار } أي : هي كثيرة المياه فكل موضع أردته نبع منه ماء يجري منه نهر . وقرأ ابن كثير بزيادة من تحتها وبجرّ التاء بعد الحاء والباقون بغير من وفتح التاء ، ثم نفى سبحانه الانقطاع بقوله تعالى : { خالدين فيها } وأكد المراد من الخلود بقوله تعالى : { أبداً } ثم استأنف مدح هذا الذي أعدّه لهم بقوله تعالى : { ذلك } أي : الأمر العالي الرتبة { الفوز العظيم } .