الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: {والسابقون} إلى الإسلام، {الأولون من المهاجرين والأنصار} الذين صلوا إلى القبلتين... {والذين اتبعوهم} على دينهم الإسلام، {بإحسان رضي الله عنهم} بالطاعة، {ورضوا عنه} بالثواب، {وأعد لهم} في الآخرة {جنات تجري} من {تحتها الأنهار} يعني بساتين تجري تحتها الأنهار، {خالدين فيها أبدا} لا يموتون، {ذلك} الثواب {الفوز العظيم}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله "من المهاجرين "الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم، "والأنصار" الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله: "والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ" يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طَلَبَ رضا الله، "رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ".

واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: "والسّابِقُونَ الأوّلُونَ"؛

فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أو أدركوا... وهي بيعة الحُديبية.

وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأوّلين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير...

"رَضِي اللّهُ عَنْهُمْ ورضُوا عَنْهُ"...: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام، "وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار" يدخلونها، "خالدين فيها": لابثين فيها "أبدا": لا يموتون فيها ولا يخرجون منها، "ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ".

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}، فيه الدلالة على تفضيل السابق إلى الخير على التالي؛ لأنه داع إليه يسبقه، والتالي تابع له، فهو إمام له وله مثل أجره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ"، وكذلك السابق إلى الشرّ أسوأ حالاً من التابع له؛ لأنه في معنى من سَنّهُ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والاتباع: طلب الثاني لحال الأول أن يكون على مثلها على ما يصح ويجوز، ومثله الاقتداء.

والإحسان هو: النفع الواصل إلى الغير مع تعريه من وجوه القبح...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

... الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ السَّبْقِ، وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصِّفَةِ، أَوْ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ، فَالصِّفَةُ الْإِيمَانُ، وَالزَّمَنُ لِمَنْ حَصَلَ فِي أَوَانٍ قَبْلَ أَوَانٍ، وَالْمَكَانُ مَنْ تَبَوَّأَ دَارَ النُّصْرَةِ، وَاِتَّخَذَهُ بَدَلًا عَنْ مَوْضِعِ الْهِجْرَةِ، وَهُمْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاتِبَ:

الْأول: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ.

الثَّانِيَةُ: دَارُ النَّدْوَةِ.

الثَّالِثَةُ: مُهَاجِرَةُ أَصْحَابِ الْحَبَشَةِ، كَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرِ.

الرَّابِعَةُ: أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَهُمْ الْأَنْصَارُ.

الْخَامِسَةُ: قَوْمٌ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ.

السَّادِسَةُ: مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ.

السَّابِعَةُ: أَهْلُ بَدْرٍ.

الثَّامِنَةُ: أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبِهِمْ انْقَطَعَتْ الْأَوَّلِيَّةُ...

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَالْأَنْصَارِ}: بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهَا عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ الْعقبِيُّونَ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ الْبَدْرِيُّونَ، وَمِنْهُمْ الرِّضْوَانِيَّةُ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا. وَقُرِئَ: وَالْأَنْصَارُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، عَطْفًا عَلَى "وَالسَّابِقُونَ "وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ، وَاخْتَارَهُ يَعْقُوبُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الرَّاءِ أَوْ خَفْضِهَا فَفِي الْأَنْصَارِ سَابِقٌ وَمُصَلٍّ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ وَاحِدٌ.

...

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}:

... وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ؛ فَقِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمَنْ دَانَاهُمْ من مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ؛ وَقَدْ ثَبَتَ (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَالِدٍ: دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ). خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقِيلَ: هُم الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي، فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ، لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَفَانَا أَن اتَّقَيْنَا اللَّهَ، وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ، وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ، [وَ] اسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ، وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ من قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا من بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.

وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةً، وَأَوْفَى أَجْرًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنَ الْفَضْلِ إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ من أُجُورِهِمْ شَيْئًا).

وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ من تَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ: (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا)؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ. فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ). فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنَ الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ، وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ، وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ، لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ، وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ، وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول، وما أعد لهم من الثواب، بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها، وهي منازل السابقين الأولين. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوها...والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة، وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم، فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة. والسبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام، والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة، فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى.

واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب، بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان، وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم، والحكم المشروط بشرط، ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط، فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقا للرضوان من الله تعالى، وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا تقسيم آخر للمؤمنين الصادقين والمنافقين من أهل الحضر والبدو جميعا عطف على تقسيم الأعراب لمشاركته له في بيان حقيقة جماعات المسلمين في ذلك العهد.

قال: {والسَّابِقُونَ الأَولُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} هذه طبقات ثلاث هي خير هذه الأمة التي هي في جملتها خير أمة أخرجت للناس:

فالأولى: السابقون الأولون من المهاجرين؛ قيل هم الذين صلوا إلى القبلتين، وروي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وقتادة وغيرهم. وقيل: هم أهل بدر، وروي عن محمد بن كعب وعطاء بن يسار، وقيل هم الذين شهدوا بيعة الرضوان في الحديبية وعليه الشعبي، ولكن هذا القول وما قبله في السابقين من المهاجرين والأنصار جميعا: وأما السابقون من المهاجرين وحدهم فهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية؛ لأن المشركين كانوا إلى ذلك الوقت يضطهدون المؤمنين في بلادهم ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها ولا يمكنون أحدا من الهجرة ما وجدوا إلى صده سبيلا، ولا منجاة للمؤمن من شرهم إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا قبل صلح الحديبية وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم كانوا كلهم من المؤمنين الصادقين، ليس فيهم منافق كما قلنا من قبل، إذ لم يكن للنفاق في ذلك الوقت مقتض ولا سبب، ولا للهجرة والجهاد داع غير الإخلاص في الإيمان وإقامة بناء الإسلام، وإن كان هؤلاء يتفاضلون في السبق وفي غيره من الأعمال، فأفضلهم الخلفاء الأربعة فسائر الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة بأشخاصهم، وما كل سابق أفضل من كل مسبوق، ومن السابقين بالإيمان من سبقه غيره بالهجرة، وأول من آمن على الإطلاق خديجة [رض]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغها خبر بعثته قبل كل أحد فصدقت وآمنت، ويليها من كان معه صلى الله عليه وسلم في بيتها، وهم علي وكان ابن 10 سنين، وزيد بن حارثة، ومن خارجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والمشهور أنه أول من آمن من الرجال، ولا خلاف في أنه آمن عندما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم بغير أدنى تريث أو تردد، ولا في أنه أول المهاجرين مع الرسول كما تقدم في تفسير آية الغار، وأول الدعاة إلى الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.

الطبقة الثانية: السابقون الأولون من الأنصار وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة في منى في المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة وكانوا سبعة، وفي المرة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. ويليهم الذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وأرسله مع أهل العقبة الثانية سنة اثنتي عشرة من البعثة، وكذا من آمن عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تكون للمسلمين قوة غالبة تتقى وترتجى، وهذه القوة رسخت عقب هجرته صلى الله عليه وسلم، وصار بعض أهل المدينة يظهرون الإسلام نفاقا بدليل قوله تعالى في الآيات التي نزلت في شأن غزوة بدر وكانت في السنة الثانية {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49]، ولم يكن فيهم أحد من المهاجرين ولا من الأنصار السابقين، وإن كانوا كلهم من الأوس والخزرج.

الطبقة الثالثة: الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة اتباعا بإحسان، أو محسنين في الأفعال والأقوال، فتضمن هذا القيد الشهادة للسابقين بكمال الإحسان لأنهم صاروا فيه أئمة متبوعين، وخرج به من اتبعوهم في ظاهر الإسلام مسيئين غير محسنين في هذا الاتباع وهم المنافقون، ومن اتبعوهم محسنين في بعض الأعمال ومسيئين في بعض وهم المذنبون، والآيات الآتية مبينة حال الفريقين.

هؤلاء الطبقات الثلاث {رضي الله عنهم} في إيمانهم وإسلامهم وإحسانهم، وأعلاه ما كان من هجرتهم وجهادهم، فقبل طاعاتهم، وغفر سيئاتهم، وتجاوز عن زلاتهم، إذ بهم أعز الإسلام، ونكل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب.

{ورضوا عنه} بما وفقهم له، وأسبغه عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فأنقذهم من شرك، وهداهم من ضلال، وأغناهم من فقر، وأعزهم من ذل.

{وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تقدم مثل هذا الوعد الكريم في الآية (72) وفي آيات أخرى ومعناه ظاهر، وأي فوز أعظم من نعيم الجنة الخالد من بدني وروحاني.

قرأ الجمهور (والأنصار) بالخفض عطفا على المهاجرين، وقرأها يعقوب بالرفع عطفا على (السابقون)، وروي عن الحسن البصري، بل روي أيضا وفيه نظر عندي أن عمر رضي الله عنه قرأها كذلك مع جعل (الذين اتبعوهم) صفة للأنصار، وأنكر على رجل قرأها بالخفض فأخبره أنه تلقاها عن أبي بن كعب كاتب الوحي وجامع القرآن، فسأل عمر أبيا فصدقه وأخبره أنه هكذا سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أنها هكذا أنزلها الله على جبريل ونزل جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا يعنى المهاجرين الأولين فقال أبي: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} [الجمعة: 3].

ولفظ الاتباع فيها نص في الصحابة المتأخرين الذين اتبعوا الأولين من المهاجرين والأنصار في صفتيهم: الهجرة والنصرة، وهو بصيغة الماضي فلا يدخل في عمومه التابعون الذين تلقوا الدين والعلم من الصحابة ولم ينالوا شرف الصحبة والهجرة والنصرة، وتسمية هؤلاء بالتابعين اصطلاحية حدثت بعد نزول القرآن وانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.

وقد ورد ذكر الطبقات الثلاث من الصحابة في آخر سورة الأنفال وعبر فيه عن الطبقة الثالثة بقوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [الأنفال: 57] وذكرت في تفسيرها آيات سورة الحشر، وقد عبر فيها عن الطبقة الثالثة بقوله {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10] الخ، ولا شك في مشاركة سائر المؤمنين لأولئك الصحابة الكرام في رضاء الله وثوابه بقدر اتباعهم لهم في الهجرة إن وجدت أسبابها، والجهاد بالأموال لهم في الهجرة إن وجدت أسبابها، والجهاد بالأموال والأنفس لنصرة الإسلام، ومنها نصرته بالحجة والبرهان، وفي سائر أعمال البر والإحسان، وإن الآيات تدل على ذلك في كل موضع، لأن الجزاء في حكم الله الحق وشرعه العدل على الأعمال، وللسابقين في كل عمل فضيلة السبق والإمامة في كل عصر، ويمتاز عصر الرسول الذي وجد فيه الإسلام وأقيم بنيانه، ورفعت أركانه، ونشرت في الخافقين أعلامه، على كل عصر بعده، وهم الأقلون المقربون كما قال تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين} [الواقعة: 10 13]...

والتحقيق ما قلناه، فإن هذه الآيات وما بعدها في بيان حال المسلمين في عهد نزولها مؤمنيهم ومنافقيهم، ومحسنيهم ومسيئهم، والذين خلطوا منهم عملا صالحا وآخر سيئا، والذين تاب الله عليهم والذين أرجأ توبتهم. وهذه الآية نص في أن الطبقات الثلاث من السابقين الأولين والذين اتبعوهم في الإيمان والهجرة والجهاد عندما أبيحت الهجرة وتيسرت أسبابها بصلح الحديبية قد فازوا كلهم برضاء الله ووعده لهم الجنة، وأنه ليس فيهم أحد من المنافقين بل كان جميع المنافقين من أهل المدينة وما حولها إلى أن فتحت مكة، وأعتق النبي صلى الله عليه وسلم أهلها، فأظهروا الإسلام والسيوف تقطر من دمائهم، فكان منهم المنافقون، وضعفاء الإيمان المقلدون، وهم الذين كانوا سبب الهزيمة في حنين كما تقدم في تفسير الآيات 25 27، ثم حسن إسلام الأكثرين، ففتحوا الفتوحات ونشروا الإسلام في العالمين.

وجملة القول: إن جميع أفراد هذه الطبقات الثلاث، قد جازوا القنطرة واستبقوا الصراط، وما عاد يؤثر في كمال إيمانهم شيء، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب. وإذا كان بعض المحدثين يقول: إن من اتفق الشيخان على تعديله في الرواية أي اعتمدا عليه في أصولهما المسندة قد جاز قنطرة الجرح، فماذا يقال فيمن عدلهم الله عز وجل، وشهد لهم بأنه رضي عنهم ورضوا عنه؟ وسيأتي أن الله تعالى تاب على المذنبين والمقصرين وغفر لهم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله.. حاضره وباديه.. إلى أربع طبقات إيمانية: السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. والمنافقين الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن الأعراب. والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. والذين أرجئ الحكم في أمرهم حتى يقضي اللّه فيهم بقضائه:

والظاهر أن هذا التصنيف قد نزلت به هذه الآيات بعد العودة من تبوك؛ وبعد اعتذار من اعتذر من المنافقين المتخلفين؛ ومن المؤمنين المتخلفين كذلك. سواء منهم من اعتذر صادقا ومن ربط نفسه بسارية المسجد حتى يحله رسول اللّه -[ص]- ومن لم يعتذر بشيء راجياً أن يقبل اللّه توبته بصدقه، وهم الثلاثة الذين خلفوا فلم يحكم في شأنهم بشيء حتى تاب اللّه عليهم وقبل توبتهم -كما سيجيئ- وكان مجموع هؤلاء يمثل صنوف الناس من حول الدعوة في الجزيرة بعد غزوة تبوك.

(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، ذلك الفوز العظيم).. وهذه الطبقة من المسلمين -بمجموعاتها الثلاث: (السابقون الأولون من المهاجرين. والأنصار. والذين اتبعوهم بإحسان)- كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح -كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة، وفي كل رخاء كذلك: فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة! والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر، وكذلك السابقون من الأنصار. أما الذين اتبعوهم بإحسان- الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك -فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني- وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر وكذلك السابقون من الأنصار. أما الذين اتبعوهم بإحسان -الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك- فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني -وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر، وهي أشد الفترات طبعاً.

" لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، فلم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش -تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: "أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه "وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية. "لم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش أول الأمر -تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة.. وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة..

" لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض.." وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه للّه؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان. "بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى؛ وكان هذا النوع قليلاً؛ فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب؛ إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين." وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار، الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -[بيعة العقبة] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين... قال ابن كثير في التفسير: "وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -[يعني ليلة العقبة]: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال:"أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل"." ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة؛ ويوثقون هذا البيع، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم؛ وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة، وبين ظهرانيهم في المدينة".. "فقد كان الأنصار إذن يعلمون- عن يقين واضح -تكاليف هذه البيعة؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا- حتى ولا النصر والغلبة -وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة.. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها.. فلا جرم أن يكونوا- مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد -هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة.." ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء.. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون- ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم -أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم.. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء: عبد اللّه بن أبي بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً- ولو لم يكونوا منافقين -ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه.. مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني، ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية. "وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول اللّه- [ص] -يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد." وحين نراجع السور المدنية- بترتيب النزول التقريبي -فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع- على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة؛ ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد -وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة. "ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين- وبخاصة في فترات الشدة -أعراض من الضعف والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر.. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية.. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة...

" إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار؛ وما تحدثه من تماسك وصلابه في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها. "وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد.." نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها.. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا.

وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة، وتنص عليها..."...

" ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق... من ذلك المجتمع. بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية. "إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف- وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة -قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر؛ وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية...". ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك (بإحسان) يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي. وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقي مؤثراً في التاريخ البشري كله، كما نستشرف حقيقة قول اللّه سبحانه فيهم: (رضي اللّه عنهم ورضوا عنه).. ورضى اللّه عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة؛ ورضاهم عن اللّه هو الاطمئنان إليه سبحانه، والثقة بقدره، وحسن الظن بقضائه، والشكر على نعمائه، والصبر على ابتلائه.. ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر، المتبادل الوافر، الوارد الصادر، بين اللّه سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده؛ ويرفع من شأن هذه الصفوة- من البشر -حتى ليبادلون ربهم الرضى؛ وهو ربهم الأعلى، وهم عبيده المخلوقون.. وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أن تعبر عنه؛ ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول! ذلك حالهم الدائم مع ربهم: (رضي اللّه عنهم ورضوا عنه). وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى: (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً).. (ذلك الفوز العظيم).. وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم.