التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 100 ) } ( 100 ) .

تعليق على الآية :

{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . }

وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآية واضحة . ولم يرو المفسرون رواية ما في سبب نزولها . ويتبادر لنا من روحها وروح الآيات المتلاحقة التي بعدها ومضمونها معا أنها استمرار في ذكر صنوف المسلمين المخلصين بعد ذكر صنوف الأعراب في الآيتين السابقتين الاستطراديتين . وأنها والحالة هذه استمرار للسياق ، وجزء من السلسلة .

وقد احتوت ثناء محببا وبشرى للطبقات الثلاث التي ذكرتها الآية . وأعظم برضاء الله عنهم ورضائهم عنه بشرى وثناء . وهي التي أخلصت في إيمانها وتفانت في واجبها وطاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييده في كل المواقف والتي قام الإسلام عليها وانتصر بها بعد الله ورسوله . والتي أشير إليها بأساليب ومواضع عديدة في القرآن المكي والمدني معا . وإن كان ذكرها هنا جاء أوضح بيانا .

ولقد روى الطبري بعض الروايات في من عناه تعبير : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } منها أنهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية . ومنها أنهم الذين صلوا للقبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أما تعبير : { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } فهم على ما رواه الذين أسلموا لله إسلام السابقين وسلكوا مناهجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير .

وعلى كل حال فالآية اعتبرت الرعيل المخلص الأول من المؤمنين فئتين . الأولى : السابقون الأولون من المهاجرين وهم الذين آمنوا في مكة وثبتوا وتحملوا الأذى وهاجروا من مكة مفضلين الله ورسوله على الأهل والوطن والمال والراحة .

والثانية : السابقون الأولون من الأنصار ، وهو الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعاهدوه على النصرة من أهل المدينة ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وأيدوه ونصروه فعلا في أوقات الشدة . وأضافت الآية إليهما فئة ثالثة ، وهم الذين اتبعوا سبيل الفئتين بإحسان أي الذين أسلموا إسلام السابقين الأولين وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير كما عرفهم الطبري .

وروح الآية من جهة وروح آيات عديدة أخرى من جهة ثانية تلهم – وهذا مما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا – أن عدد هذه الفئات الثلاث كان غير يسير وأن موقفها كان خالصا لله ورسوله ومنبعثا عن إيمان وعقيدة راسختين لا يشوبهما قصد المنفعة والمسايرة خلافا لما يحلو لبعض المستشرقين أن يقرروه ويعمموه ويوسعوا نطاقه . والراجح أن هذه الطبقة وبخاصة الفئتين الأوليين منهما هما المقصودتان في الأحاديث النبوية في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإيجاب احترامهم التي روينا طائفة منها في مناسبات سابقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يخاطب السامعين بقوله : ( لا تسبوا أحدا من أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أو : ( الله الله في أصحابي ، لا تتخذهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشوك أن يأخذه ) و : ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) . لا يعقل أن يكون قصد جميع الناس الذين رأوه وبايعوه على الإسلام ؛ لأنه لا يكون حينئذ محلا لتوجيه هذا النهي والتنبيه .

وهذه الدلالة منطوية في آية في هذه السورة تأتي بعد قليل أمرت المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين حيث يفيد أن الأمر لعموم المسلمين ليكونوا مع الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ومما لا شك فيه أن هذه الطبقة أهل لكل تعظيم وتوقير واقتداء واتباع . فهذا الثناء الرباني والنبوي عليهم لا بد من أنه بسبب إيمانهم العميق وإخلاصهم الشديد وتفانيهم في خدمة دين الله ورسوله وتعاونهم على البر والتقوى وورعهم .

وفي السور المكية والمدنية صور كثيرة من ذلك نبهنا عليها في مناسباتها وفي روايات السيرة صور كثيرة أيضا فيها الروائع التي تملأ النفس إجلالا وإعظاما .

والآية من أواخر ما نزل من القرآن ؛ ولهذا دلالة هامة من حيث اقتضاء حكمة الله تسجيل رضائه عن هذه الفئة في أواخر ما اقتضت حكمته إيحاءه . . ومن هنا يظهر ما في الانتقاص من قدر هذه الفئة أو معظمها وبغضها وسمها وتكفيرها وهو ما دأب وما يزال يدأب عليه طوائف الشيعة ، بزعم أنهم خالفوا أوامر الله ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم ووصاياهما وهو زعم كاذب كل الكذب من جرأة على الله ورسوله وأصحابه بل ومن كفر صريح .

وجملة : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } صريحة بأنها عنت الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان من أهل مكة والمدينة . وفي كتب التفسير تعريفات عنهم مروية عن أهل التأويل . منها أنهم أوائل الذين آمنوا من المهاجرين وأوائل الذين آمنوا من الأنصار . ومنها أنهم جميع الذين هاجروا إلى المدينة وصلوا إلى القبلتين . وجميع الذين آمنوا في المدينة وصلوا إلى القبلتين . ومنها أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة يوم الحديبية . ولعل الأوجه أنهم الذين آمنوا قبل الهجرة ثم قبل الفتح المكي من غير أهل المدينة وأنهم الذين آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وفي ظروفها الأولى من أهل المدينة . وفي سورة الحديد آية يمكن أن تكون ضابطا ما وهي : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وهناك حديث نبوي رواه الخمسة يمكن أن يكون فيه ضابط ما أيضا وهو : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية . وإذا استنفرتم فانفروا ) ( 1 ){[1130]} . والله تعالى أعلم .

ولقد ذكر الخازن في جملة ما ذكره أن تعبير : { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } يشمل جميع المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى السابقين الأولين . وذكر الطبرسي أن هذا التعبير يشمل كل مسلم سار على طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة .

ونقول في صدد القول الأول : إن في الآيات التالية لهذه الآيات ما لا يتسق معه ؛ لأن فيها تقريرا بأن من المسلمين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا والمرجى لأمر الله فضلا عن المنافقين غير المعروفين . أما القول الثاني فإن الآية وإن كان من الممكن أن تلهم أن التعبير هو في صدد أناس موجودين فعلا حين نزولها . وهذا ما يلهمه كذلك تعبير : { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الذي يشملهم فإن فيه وجاهة حيث يمكن أن ينطوي في الآية تلقين مستمر المدى يوجب على المسلمين في كل ظرف ومكان أن يجعلوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قدوة وإماما بعد الله ورسوله . ويجعل الذين يلتزمون ذلك محل رضاء الله سبحانه وتعالى . ويلفت النظر في هذا المقام إلى تعبير : { بإحسان } فكأنما جاء ليكون شرطا للحوق الآخرين بالأولين أو لدخولهم في ساحة رضاء الله وبشراه .


[1130]:التاج ج 3 ص 304.