قوله تعالى : { وفي أنفسكم } آيات ، إذا كانت نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عظماً إلى أن نفخ فيها الروح . وقال عطاء عن ابن عباس : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع . وقال ابن الزبير : يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين . { أفلا تبصرون } قال مقاتل :صلى الله عليه وسلم أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث .
عطف على { في الأرض } [ الذاريات : 20 ] . فالتقدير : وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون . تفريعاً على هذه الجملة المعطوفة فيقدر الوقف على { أنفسكم } . وليس المجرور متعلقاً ب { تبصرون } متقدماً عليه لأن وجود الفاء مانع من ذلك إذ يصير الكلام معطوفاً بحرفين . والخطاب موجه إلى المشركين . والاستفهام إنكاري ، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات . والإبصار مستِعار للتدبر والتفكر ، أي كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم .
وتقديم { في أنفسكم } على متعلقه للاهتمام بالنظر في خلق أنفسهم وللرعاية على الفاصلة .
والمعنى : ألا تتفكرون في خلق أنفسكم : كيف أنشأكم الله من ماء وكيف خلقكم أطواراً ، أليس كل طور هو إيجادَ خلق لم يكن موجوداً قبل . فالموجود في الصبي لم يكن موجوداً فيه حين كان جنيناً . والموجود في الكهل لم يكن فيه حين كان غلاماً وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة كانت معدومة فكذلك إنهاء الخلق بعد الموت .
وهذا التكوين العجيب كما يدل على إمكان الإيجاد بعد الموت يدل على تفرّد مكونة تعالى بالإلهية إذ لا يقدر على إيجادِ مثلِ الإنسان غيرُ الله تعالى فإن بَواطن أحوال الإنسان وظواهرها عجائِب من الانتظام والتناسب وأعجبها خلق العقل وحركاته واستخراج المعاني وخلق النطق والإهام إلى اللغة وخلق الحواس وحركة الدورة الدموية وانتساق الأعضاء الرئيسة وتفاعلها وتسوية المفاصل والعضلات والأعصاب والشرايين وحالها بين الارتخاء واليبس فإنه إذا غلب عليها التيبس جاء العجز وإذا غلب الارتخاء جاء الموت . والخطاب للذين خوطبوا بقوله أول السورة { إن ما تُوعَدُون لصادق } [ الذاريات : 5 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وفي} خلق {أنفسكم} حين كنتم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم لحما، ثم ينفخ فيه الروح، ففي هذا كله آية {أفلا} يعني أفهلا {تبصرون} قدرة الرب تعالى أن الذي خلقكم قادر على أن يبعثكم كما خلقكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وفي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ"... وفي تسوية الله تبارك وتعالى مفاصل أبدانكم وجوارحكم دلالة لكم على أن خلقتم لعبادته...
معنى ذلك: وفي أنفسكم أيضا أيها الناس آيات وعِبر تدلّكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم. "أفَلا تُبْصِرُونَ "يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وفي أنفسكم} أي في خلق أنفسكم {أفلا تبصرون} أنه كيف سوّى أنفسكم على أحسن الصور وأحسن التقويم بعد ما كان أصلها وجوهرها من ماء؟ وكذلك أصل جواهر الأنعام والبهائم من نطفة أيضا، ثم ركّبها على صُور صالحة لمنافعكم. وركّبكم على أحسن الصور، ثم جعل فيكم من العقل والسمع والبصر ما تُدرك بها حقائق الأشياء المحسوسة والمعاني الحكميّة لتتأملوا في ذلك كله، فتكون آية الوحدانية وآية إلزام الشكر والعبادة له، والله الموفّق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق: ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوّى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وفي أنفسكم} أي من الآيات التي شاركتم بها الجماد، ثم فارقتموه بالنمو ثم بالحس ثم فارقتم الحيوان الخسيس بالعقل الموصل إلى بدائع العلوم ودقائق الفهوم... {أفلا تبصرون} أي بأبصاركم وبصائركم فتتأملوا ما في ذلك من الآيات وتتفكروا هل ترون أسباب أكثرها، فإن كل هذه آيات دالة على قدرة الصانع على كل ما يريد واختياره...
فمن تأملها علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له رباً غير محتاج، ومن أبصر ذلك أبصر جميع الصفات والأسماء فنفذ فهمه في شفاف الكائنات، فارتقى إلى أعلى الدرجات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض:
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين.
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني: في أسرار هذا الجسد. عجيبة في تكوينه الروحي: في أسرار هذه النفس. وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه. وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير. تكوين أعضائه وتوزيعها. وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف. عملية الهضم والامتصاص. عملية التنفس والاحتراق. دورة الدم في القلب والعروق. الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم. الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه. تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامل الدقيق. وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب. وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب.
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة.. إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها. هذه المعلومات والصور المختزنة. أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تستدعى فتجيء.. وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى. فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر. تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول.
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه. خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين. فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدق تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟!
وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة. إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان!
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات. بل أمام النطق ذاته. نطق هذا اللسان. وتصويت تلك الحنجرة. إنها عجيبة. عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرا. ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها. إنها خارقة. خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله.
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب؛ (وفي أنفسكم. أفلا تبصرون؟)..
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده. ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبدا على مدار الدهور. ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعا لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره. ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره. ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين، كل فرد نموذج خاص، وطبعة فريدة لا تتكرر. يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر. كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور!
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر، تراه العيون: (وفي أنفسكم. أفلا تبصرون؟): وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون.
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب. فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات. والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم، والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها. ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر. وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر، وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب، الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول.
وإنها للحظات ممتعة حقا تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم، بعين العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن الخالقين. فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع؟
إن القرآن بمثل هذه اللمسة يخلق الإنسان خلقا جديدا، بحس جديد؛ ويمتعه بحياة جديدة، ويهبه متاعا لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع.
وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس. والإيمان هو الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد، وهو الذي يهيئ له هذا المتاع العلوي. وهو بعد في الأرض في عالم الطين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون...
والخطاب موجه إلى المشركين. والاستفهام إنكاري، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات. والإبصار مستِعار للتدبر والتفكر، أي كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم...