قوله تعالى : { إن عدة الشهور } ، أي : عدد الشهور ، { عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } ، وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .
وقوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في حكم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . قرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وتسعة عشر ، وأحد عشر ، بسكون الشين ، وقرأ العامة بفتحها ، { يوم خلق السماوات والأرض } ، والمراد منه : الشهور الهلالية ، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلية . والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعا وخمسين يوما ، { منها أربعة حرم } ، من الشهور أربعة حرم وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد ، { ذلك الدين القيم } ، أي : الحساب المستقيم . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ، قيل : قوله { فيهن } ينصرف إلى جميع شهور السنة ، أي : فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة . وقيل : { فيهن } أي : في الأشهر الحرم . قال قتادة : العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم ، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما . وقال ابن عباس : فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن . قال محمد بن إسحاق بن يسار : لا تجعلوا حلالها حراما ، ولا حرامها حلالا ، كفعل أهل الشرك وهو النسيء . وقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } ، جميعا عامة ، { كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } ، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم . فقال قوم : كان كبيرا ثم نسخ بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } كأنه يقول فيهن وفي غيرهن . وهو قول قتادة ، وعطاء الخرساني ، والزهري وسفيان الثوري ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : إنه غير منسوخ : قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح : ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت .
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم }
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر ، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي ، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية ، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه ، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } [ التوبة : 5 ] بعدما عَقِبَ ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم .
والمقصود : ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها ، وأفضى إلى اختلاطها ، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها ، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها .
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها .
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ .
والمراد بالشهور : الشهور القمرية بقرينة المقام ، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم ، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال ، وتاريخِ الحوادث الماضية ، بمجرّد المشاهدة ، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض . قال تعالى : { لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل ، وما حدثت الأشهر الشمسية وسَنتها إلاّ بعد ظهور علم الفلك والميقات ، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة ، وجعلوها حساباً لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلاّ بعض الفصول ، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية ، وقد كان الحساب الشمسي معروفاً عند القبط والكلدانيين ، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر ، وتعيين الشمسية للأعياد ، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين ، فأمّا ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي . فألْهم الله البشر ، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم ، أن اتّخذوا نظاماً لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت ، وأن جعلوه مستنداً إلى مشاهَدات بيّنة واضحة لسائر الناس ، لا تنحجب عنهم إلا قليلاً في قليل ، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة ، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاماً مطرداً . وذلك كواكب السماء ومنازلها ، كما قال في بيان حكمة ذلك { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق } [ يونس : 5 ] ، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستنداً إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم ، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر ، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك ، وبذلك تنظم اليومُ والليلة ، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالاً إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شَهْر آخر ، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاةِ بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة ، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذوَ شكل من النجوم سَمَّوه بالمنازل .
وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد ، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمَر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العَدّ وهي أوقات الفصول الأربعة ، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهراً فسمّوا تلك المدّة عاماً ، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهراً ، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أوّل مرّة ، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعاً للغلط ، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم ، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم ، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعياداً دورية تكون مرّة في كلّ سنة ، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر ، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم ، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب ، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها ، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها ، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها ، كان ذلك كلّه مراداً عنده فلذلك قال : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } .
فمعنى قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } : أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر ، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرّراً .
و { عند الله } معناه في حكمه وتقديره ، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد ، وهو ظرف معمول ل { عدّة } أو حال من { عدّة } و { في كتاب الله } صفة ل { اثنا عشر شهراً } .
ومعنى { في كتاب الله } في تقديره ، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات ، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقاً تنجيزياً كقوله : { كتابا مؤجلا } [ آل عمران : 145 ] أي قدرا محدّداً ، فكتاب هنا مصدر .
بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال : { وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ولذلك قال هنا { يوم خلق السماوات والأرض } ف { يومَ } ظرف ل { كتاب الله } بمعنى التقدير الخاصّ ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض .
ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات ، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر ، وكان بها القمر مجزَّءاً أجزاء ، منذُ كونِه هلالاً ، إلى رُبعه الأول ، إلى البدر ، إلى الربُع الثالث ، إلى المحاق ، وهي مقادير الأسابيع ، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض .
ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكُتل من الكواكب ، التي تبدو للعين مجتمعة ، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع ، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبلَ أحد عشر طلوعاً من أي وقت ابتُدىءَ منه العد من أوقات الفصول ، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية .
فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنَتُها حاصلاً من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات ، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها ، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معاً .
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب ، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم ، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ ، ألا ترى قول لبيد :
حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً *** جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها
أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية .
وقرأ الجمهور { اثنا عشر } بفتح شين { عشر } وقرأه أبو جعفر { اثنا عْشَرَ } بسكون عين { عشر } مع مدّ ألف اثنا مُشْبَعاً .
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم : ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب ، إلاّ ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رَجَباً ، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى ، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تُحلّ أشهر السنة كلَّها ، وهي قضاعة . وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله : { منها أربعة حرم } « ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان »
وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس ، وإقامة الحجّ ، كما قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] .
واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس ، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة ، والأخلاق الكريمة ، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل ، الواقعة فيه ، أو المقارِنة له . فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه ، أو بإطْلاع على مراده ، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه ، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات ، أو مضاعفةِ الحسنات ، كما قال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } [ القدر : 3 ] أي من عبادة ألف شهر لمَنْ قبلَنا من الأمم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " صَلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحَرام " والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضّل زمنٌ على زمَن ، وفُضّل مكانٌ على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله ، فقدَّرها ، فأشبهت الأمور الكونية ، فلا يُبطلها إلاّ إبطال من الله تعالى ، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة ، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلاً في أوقات دينية : لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية ، ولا يكون لها اعتبار إلاّ إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنةٍ أو أمكنةٍ أو ناس .
الإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور : من عدّةِ الشهور الاثني عشر ، وعدّة الأشهر الحرم . أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل ، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّمُ فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة .
والدين : النظام المنسوب إلى الخالق الذي يُدان الناس به ، أي يعامَلون بقوانينه . وتقدّم عند قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) ، كما وصف بذلك في قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [ الروم : 30 ] .
فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه { في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } .
وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهراً حُرُما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله : { ذلك الدين القيم } ، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرماً اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي ، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية .
وجملة : { ذلك الدين القيم } معترضة بين جملة { إن عدة الشهور } وجملة { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } .
{ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } .
تفريع على { منها أربعة حرم } فإنّها ، لما كانت حرمتها ممّا شرعه الله ، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها .
فالضمير المجرور ب { في } عائد إلى الأربعة الحرم : لأنّها أقرب مذكور ، ولأنّه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها ، وإلاّ لكان مجرّد اقتضاب بلا مناسبة ، ولأنّ الكسائي والفرّاء ادّعيا أنّ الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلّة من المؤنث مثل هُنّ كما قال هنا { فيهن } إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل ( ها ) يعاملان معاملة الواحد كما قال : { منها أربعة حرم } ومعلوم أنّ جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث ، وقال الكسائي : إنّه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي « خلون » وفيما فوقها « خَلَت » . وعن ابن عبّاس أنّه فسرّ ضمير فيهنّ بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده : فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية ، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين { فيها } و { فيهن } وأنّ الاختلاف بينهما في الآيةِ تفنُّن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعّد عليه ، فإنّ فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب ، فكان ظلماً للنفس قال تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] الآية وقال : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } [ النساء : 110 ] .
والأنفس تحتمل أنّها أنفس الظالمين في قوله : { فلا تظلموا } أي لا يظلم كلّ واحد نفسه . ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي : أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة ، فإن لم يكن أحد متلبّساً بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي ، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أنّ المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهياً عنها ، بل المراد أنّ المعصية فيها أعظم وأنّ العمل الصالح فيها أكثر أجراً ، ونظيره قوله تعالى : { ولا فسوق ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] فإنّ الفسوق منهي عنه في الحجّ وفي غيره .
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء ، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين ، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أنّ الأمّة كالنفس من الجسد على حدّ قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية ، وكقوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر ، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] وإنّما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيداً لمنطوق قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] ولمفهوم قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وهي مقيّدة بقوله : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } [ التوبة : 7 ] وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] . ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياماً من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم ، فاستمرّت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة ، وما كان ليكفّ القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أوّلَ مرّة ، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود .
والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور ، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة : فقال ابن المسيّب ، وابن شهاب ، وقتادة ، وعطاء الخراساني حَرَّمت الآية القتالَ في الأشهر الحرم ثم نُسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات ، فتكون هذه الآية مكمّلة لما بقي من مدّة حرمة الأشهر الحرم ، حتّى يعُمّ جميع بلاد العرب حكمُ الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضَربِ الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود .
وقال عطاء بن أبي رباح : يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلاّ أن يبدأ العدوّ فيها بالقتال ولا نسخ في الآية .
{ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } .
أحسب أنّ موقع هذه الآية موقعُ الاحتراس من ظنّ أنّ النهيِ عن انتهاء الأشهر الحرم يَقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين ، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله : { كما يقاتلونكم كافة } فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي ، أو باعتدائكم على أعدائكم ، فإن هم بَادَأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم ، وتعليله بأنّهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين .
و { كافّة } كلمة تدلّ على العموم والشمول بمنزلة ( كلّ ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكَّد من أفراد وتثنية وجمع ، ولا من تذكير وتأنيث ، وكأنّه مشتق من الكفّ عن استثناء بعض الأفراد ، ومحلّها نصب على الحال من المؤكَّد بها ، فهي في الأول تأكيد لقوله { المشركين } وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين ، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنّه تبع لعموم الذوات ، أي كلّ فِرق المشركين ، فكلّ فريق وُجد في حالة مَّا ، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال ، فالمسلمون مأمورون بقتاله ، فمن ذلك : كلّ فريق يكون كذلك في الأشهر الحُرُم ، وكلّ فريق يكون كذلك في الحَرَم .
والكاف في { كما يقاتلونكم } أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلّته ، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .
وجملة { واعلموا أن الله مع المتقين } تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين ، لأنّ المعية هنا معية تأييد على العمل ، وليست معية عِلم ، إذ لا تختصّ معيّة العلم بالمتّقين .
وابتدئت الجملةُ ب { اعلموا } للاهتمام بمضمونها كما تقدّم في قوله تعالى : { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، بحيث يجب أن يعلموه ويَعوه .
والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتّقين ، دون أن يقال واعلموا أنّ الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم ، فيفيد أنّ المتّصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين ، لئلا يكون ذكر جملة { واعلموا أن الله مع المتقين } غريباً عن السياق ، فيحصل من ذلك كلام مستقلّ يجري مجرى المثل وإيجازٌ يفيد أنّهم حينئذٍ من المتّقين ، وأنّ الله يؤيّدهم لتقواهم ، وأنّ القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى ، وأنّ المشركين حينئذٍ هم المعتدون على حرمة الأشهر ، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {إن عدة الشهور عند الله} {اثنا عشر شهرا في كتاب الله}، يعنى اللوح المحفوظ، {يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم}، المحرم، ورجب وذو القعدة، وذو الحجة، {ذلك الدين القيم} يعني الحساب {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} يعني في الأشهر الحرم، يعني بالظلم ألا تقتلوا فيهن أحدا من مشركي العرب إلا أن يبدؤوا بالقتل، {ذلك الدين القيم} يعني بالدين الحساب المستقيم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ" الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى، "يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ "يقول: هذه الشهور الاثنا عشر، منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن وتحرّمهن وتحرّم القتال فيهنّ، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه. وهن: رجب مضر وثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: ثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق، فقال: «يا أيّها النّاسُ، إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، أوّلَهُنّ رَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجّةِ وَالمُحَرّمُ»...
وأما قوله: "ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ". فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله، وأن منها أربعة حرما: هو الدين المستقيم...
وأما قوله: "فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنفُسَكُمْ" فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها، ولا تحلوا فيهنّ ما حرّم الله عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط الله وعقابه. ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه الهاء والنون في قوله: "فيهنّ"؛ فقال بعضهم: عاد ذلك على الاثني عشر شهرا، وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم، والهاء والنون عائدة على الأشهر الأربعة... وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلاها حراما أنفسكم... وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظّم حرمتها.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويله لقوله: "فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ" فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة، وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة إذا كَنَتْ عنه: فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون، ولأربعة أيام بقين، وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين، قالت: فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت. فكان في قوله حلّ ثناؤه: "فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ" وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فِيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة الدليل الواضح على أن الهاء والنون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر لأن ذلك لو كان كناية عن الاثني عشر شهرا لكان: فلا تظلموا فيها أنفسكم...
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السنة؟ قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان، ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة، فخصّ الذنب فيهنّ بالتعظيم كما خصهنّ بالتشريف، وذلك نظير قوله: "حافِظُوا على الصّلَوَاتِ والصّلاةِ الوُسْطَى" ولا شكّ أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: "حافِظُوا على الصّلَوَاتِ" ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيما وعلى المحافظة عليها توكيدا وفي تضييعها تشديدا، فكذلك ذلك في قوله: "مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ".
وأما قوله: "وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً" فإنه يقول جلّ ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين... وأما قوله: "واعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتّقِينَ" فإن معناه: واعلموا أيها المؤمنون بالله أنكم إن قاتلتم المشركين كافّة، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان الله معكم على عدوّكم وعدُوه من المشركين، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء، لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا عَلِم أنهم لا يُداوِمُون على مُلازَمَةِ القُرْبِ أَفْرَدَ بعضَ الشهور بالتفضيل، ليخُصُّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمَّا الخواصُ مِنْ عبادِه فجميعُ الشهورِ لهم شعبانُ ورمضانُ، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة، وجميع البقاع لهم مسجد...قوله جلّ ذكره: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ}. قال للعوام: لا تَظْلِموا في بعض الشهور أَنْفُسَكُم، يعني بارتكاب الزَّلَّة. وأَمَّا الخواص فمأمورون ألا يَظْلِمُوا في جميع الشهور قلوبَهم باحتقاب الغفلة. ويقال: الظلم على النَّفْس أن يجعلَ العبدُ زمامَه بيد شهواته، فَتُورِدُه مَواطِنَ الهلاك. ويقال: الظلم على النَّفْس بخدمة المخلوقين بَدَل طاعة الحقِّ. ويقال: مَنْ ظَلَم على قلبه بالمضاجعات امْتُحِنَ بِعَدمِ الصفوة في مرور الأوقات. {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً}: ولا سِلاحَ أمضى على العدوِّ مِن تَبَرِّيكَ عن حَوْلِكَ وقُوَّتِك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحِل وتحليل شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عيه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم خلف ابنه قلع بن عباد، ثم خلفه ابنه أمية بن قلع، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين، فقالوا أنسئنا شهراً أي آخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة، قال مجاهد: ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمون، ربيعاً، ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا، ففي هذا قال الله عز وجل {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} أي ليست ثلاثة عشر شهراً،...
قال القاضي أبو محمد: ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة، والذي ذكرناه هو بيانها، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء، ولما كانت سنة العرب هلالية بدأ العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر،... ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعاً منها، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش...
وقوله {وقاتلوا المشركين} معناه فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله {كافة} معناه جميعاً وهو مصدر في موضع الحال، قال الطبري: كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة، ويظهر أيضاً أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها، وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها، فاللفظة على هذا اسم فاعل، وقال بعض الناس: معناه يكف بعضهم بعضاً عن التخلف، وما قدمناه أعم وأحسن، وقال بعض الناس: كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية...
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله {كما يقاتلونكم} فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير، وقوله {واعلموا أن الله مع المتقين} خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد...
اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين، وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله، وذلك لأنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص، فإذا غيروا تلك الأحكام بسبب النسيء فحينئذ كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم...
اعلم أن السَّنَة عند العرب؛ عبارة عن اثني عشر شهرا من الشهور القمرية، والدليل عليه هذه الآية وأيضا قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب، وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر، وأيضا قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} وعند سائر الطوائف: عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة، والسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار معلوم، وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة، وفي الصيف أخرى، وكان يشق الأمر عليهم بهذا السبب، وأيضا إذا حضروا الحج حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف، وكان يخل أسباب تجاراتهم بهذا السبب، فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة على ما هو معلوم في علم الزيجات، واعتبروا السنة الشمسية، وعند ذلك بقي زمان الحج مختصا بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النسيء وإن كان سببا لحصول المصالح الدنيوية، إلا أنه لزم منه تغير حكم الله تعالى، لأنه تعالى لما خص الحج بأشهر معلومة على التعيين، وكان بسبب ذلك النسيء، يقع في سائر الشهور تغير حكم الله وتكليفه. فالحاصل: أنهم لرعاية مصالحهم في الدنيا سعوا في تغيير أحكام الله وإبطال تكليفه، فلهذا المعنى استوجبوا الذم العظيم في هذه الآية.
واعلم أن السنة الشمسية لما كانت زائدة على السنة القمرية جمعوا تلك الزيادة، فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهرا، فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وقال: إن حكم الله أن تكون السنة اثني عشر شهرا لا أقل ولا أزيد، وتحكمهم على بعض السنين، أنه صار ثلاثة عشر شهرا حكم واقع على خلاف حكم الله تعالى، ويوجب تغيير تكاليف الله تعالى، وكل ذلك على خلاف الدين. واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا حكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام. فأما عند اليهود والنصارى، فليس كذلك. ثم إن بعض العرب تعلم صفة الكبيسة من اليهود والنصارى، فأظهر ذلك في بلاد العرب...
وأما قوله: {يوم خلق السموات والأرض} فقد ذكرنا في المسألة الثانية وجوها فيما يتعلق به والأقرب ما ذكرناه في الوجه الثالث، وهو أن يكون المراد أنه كتب هذا الحكم وحكم به يوم خلق السموات والأرض، والمقصود بيان أن هذا الحكم حكم محكوم به من أول خلق العالم، وذلك يدل على المبالغة والتأكيد.
وأما قوله: {منها أربعة حرم} فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، وهو رجب، ومعنى الحرم: أن المعصية فيها أشد عقابا، والطاعة فيها أكثر ثوابا، والعرب كانوا يعظمونها جدا حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له. فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السبب في هذا التمييز؟. قلنا: إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع، فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها. وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر، وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة. وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة، فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة، ثم نقول: لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفس، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خبث النفس، وهذا غير مستبعد عند الحكماء، ألا ترى أن فيهم من صنف كتبا في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك... وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الأشهر، وفيه فائدة أخرى: وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم، فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام، حتى أن الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات، وذلك يوجب أنواعا من الفضائل والفوائد: أحدها: أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب، لأنه يعلل القبائح. وثانيها: أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سببا لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا.
وثالثها: أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سببا لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات، والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سببا لاجتنابه عن المعاصي بالكلية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام. ثم قال تعالى: {ذلك الدين القيم} وفيه بحثان: البحث الأول: أن قوله: {ذلك} إشارة إلى قوله: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا} لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله: {منها أربعة حرم} وعندي أن الأول أولى، لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم، إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا، وكانوا يغيرون مواقع الشهور، والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء، فوجب حمل اللفظ عليه.
البحث الثاني: في تفسير لفظ الدين وجوه:
الأول: أن الدين قد يراد به الحساب. يقال: الكيس من دان نفسه أي حاسبها، والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير، ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفي.
الثاني: قال الحسن: ذلك الدين القيم الذي لا يبدل ولا يغير، فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير، الدائم الذي لا يزول، وهو الدين الذي فطر الناس عليه.
الثالث: قال بعضهم: المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام.
وقال القاضي: حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب، لأنه مجاز فيه، ويمكن أن يقال: الأصل في لفظ الدين الانقياد. يقال: يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، فالحساب يسمى دينا، لأنه يوجب الانقياد، والعدة تسمى دينا، فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب. قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكاتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة، ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية. ثم قال تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم}...
الأول: المراد منه النسيء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر، ويغيرون تكاليف الله تعالى.
والثاني: أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر.
والثالث: أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب.
والأقرب عندي حمله على المنع من النسيء، لأن الله تعالى ذكره عقيب الآية. ثم قال: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} وفيه مباحث:
البحث الأول: قال الفراء: {كافة} أي جميعا، والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول: كافين، أو كافات للنساء ولكنها (كافة) بالهاء والتوحيد، لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة، ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام، لأنها في مذهب قولك قاموا معا، وقاموا جميعا. وقال الزجاج: كافة منصوب على الحال، ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع، كما أنك إذا قلت: قاتلوهم عامة، لم تثن ولم تجمع، وكذلك خاصة.
البحث الثاني: في قوله: {كافة} قولان:
الأول: أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة، يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.
والثاني: قال ابن عباس: قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر.
البحث الثالث: ظاهر قوله: {قاتلوا المشركين كافة} إباحة قتالهم في جميع الأشهر، ومن الناس من يقول: المقاتلة مع الكفار محرمة، بدليل قوله: {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه}.
ثم قال: {واعلموا أن الله مع المتقين} يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات. قال الزجاج: تأويله أنه ضامن لهم النصر.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
هذه الآيةُ والتي بعدها تتضمَّن ما كانت العربُ عليه في جاهليَّتها من تحريم شُهُورِ الحلِّ، وتحليلِ شهورِ الحُرْمَةَ، وإِذا نصَّ ما كانت العرب تفعله، تبيَّن معنى الآيات، فالذي تظاهرَتْ به الرواياتُ، ويتخلَّص من مجموع ما ذَكَره النَّاسُ: أن العرب كانَتْ لا عَيْشَ لأكْثَرها إِلا من الغارات وإِعمالِ سِلاَحِها، فكانوا إِذا توالَتْ عليهم حُرْمَةُ الأشهر الحُرُمِ، صَعُبَ عليهم، وأَمْلقوا وكان بنو فُقَيْمٍ من كِنانة أهْلَ دينٍ في العرب، وتَمَسُّكٍ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ، فنَسِأ الشهورَ للعربِ، ثم خَلَفَهُ عَلَى ذلك بنوه، وذكر الطبريُّ وغيره؛ أن الأمر كان في عدوانٍ قبل بني مالكِ بن كنانةً، وكانتْ صورة فعلهم: أن العرب كانَتْ إِذا فرغَتْ من حَجِّها، جاء إِليه مَنْ شاء منهم مجتمعين، فقالوا: أَنْسَانَا شَهْراً، أيْ: أخّرْ عنا حرمةَ المُحَرَّم، فاجعلها في صَفَرٍ، فيحلُّ لهم المُحَرَّمَ، فيغيرون فيه، ثم يلتزمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ؛ ليوافقوا عدَّة الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة قال مجاهد: ويسمُّون ذلك الصَّفَرَ المُحرَّم، ثم يسمون ربيعاً الأوَّل صفراً وربيعاً الآخِرَ ربيعاً الأَوَّل، وهكذا في سائِرِ الشهورِ، وتجيء السنةُ مِنْ ثلاثةَ عَشَرَ شهراً أولها: المحرَّم المُحَلَّل، ثم المحرَّم الذي هو في الحقيقة صَفَرٌ، وفي هذا قال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} أيْ: ليستْ ثلاثةَ عَشَرَ، ثم كانَتْ حِجَّةُ أبي بَكْرٍ في ذي القَعْدة حقيقةً، وهم يسمُّونه ذَا الحِجَّة، ثم حَجَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ في ذي الحِجَّة حقيقةً، فذلك قوله عليه السلام: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استدار كَهَيْئتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالأَرْضِ؛ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّة والمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان). وقوله في {كتاب الله}، أَيْ: فيما كتبه، وأثبته في اللَّوْحِ المحفوظ، أو غيرِهِ، فهي صفةُ فِعْلٍ مثل خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وليستْ بمعنى قضائه وتقديره؛ لأن تلكَ هي قَبْلَ خلْق السموات والأرض. وقوله سبحانه: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}: نصٌّ على تفضيلِ هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة: (اصطفى اللَّه مِنَ الملائكةِ والبَشَرِ رُسُلاً، ومِنَ الشَهور: المُحَرَّمَ ورمَضَانَ، ومِنَ البُقَعِ المساجَدِ، ومِنَ الأيام الجمعةَ، ومِنَ الليالِي ليلةَ القَدْرِ، ومِنَ الكلام ذِكْرُهُ، فينبغي أَنْ يعظَّم ما عَظَّمُ اللَّه).
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم كثير مما ينبني على التاريخ: الحج في غير موضع والأشهر وإتمام عهد من له مدة إلى مدته والزكاة والجزية، وختم ذلك بالكنز الذي لا يطلق شرعاً إلا على ما لم تؤد زكاته، وكان مشركو العرب -الذين تقدم الأمر بالبراءة منهم والتأذين بهذه الآيات يوم الحج الأكبر فيهم- قد أحدثوا في الأشهر -بالنسيء الذي أمروا أن ينادوا في الحج بإبطاله- ما غير السنين عن موضوعها الذي وضعها الله عليه، فضاهوا به فعل أهل الكتاب بالتدين بتحليل أكابرهم وتحريمهم كما ضاهى أولئك قول أهل الشرك في النبوة والأبوة، قال تعالى: {إن عدة الشهور} أي منتهى عدد شهور السنة {عند الله} أي في حكم وعلم الذي خلق الزمان وحده وهو الإله وحده فلا أمر لأحد معه {اثنا عشر شهراً} أي لا زيادة عليها ولا تغيير لها كما تفعلونه في النسيء {في كتاب الله} أي كلام الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وحكمه الذي هو مجمع الهدى، فهو الحقيق بأن يكتب، وليست الشهور ثلاثة عشر ولا أكثر كما كان يفعل من أمرتكم بالبراءة منهم كائنين منة كانوا في النسيء {يوم} أي كان ذلك وثبت يوم {خلق السماوات والأرض} أي اللذين نشأ عنهما الزمان. والمعنى أن الحكم بذلك كان قبل أن يخلق الزمان {منها} أي الشهور {أربعة حرم} أي بأعيانها لا بمجرد العدد {ذلك} أي الأمر العظيم والحكم العالي الرتبة في الإتقان خاصة {الدين القيم} أي الذي لا عوج فيه ولا مدخل للعباد، وإنما هو بتقدير الله تعالى للقمر؛ روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -يعني في حجة الوادع:"إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" ولما بين الأمر سبب عنه قوله: {فلا تظلموا فيهن} أي الأشهر الحرم {أنفسكم} أي بسبب إنساء بعضها وتحريم غيره مكانة لتوافقوا العدد- لا العين -اللازم عنه إخلال كل منها بإيقاع الظلم فيه وتحريم كل من غيرها، قال قتادة: العمل الصالح والفاسد فيها أعظم منه في غيرها وإن كان ذلك في نفسه عظيماً فإن الله تعالى لعظم من أمره ما شاء؛ وقال أبو حيان ما حاصله: إن العرب تعيد الضمير على جمع الكثرة كالواحدة المؤنثة فلذا قال: "منها أربعة "أي من الشهور، وعلى جمع القلة لما لا يعقل بنون جمع المؤنث فلذا قال {فلا تظلموا فيهن} أي في الأربعة. ولما كان إنساؤهم هو لتحل لهم المقاتلة على زعمهم قال: {وقاتلوا المشركين كافة} أي كلكم في ذلك سواء، في الائتلاف واجتماع الكلمة {كما يقاتلونكم كافة} أي كلهم في ذلك سواء وذلك الحكم في جميع السنة، لا أنهاكم عن قتالهم في شهر منها، فأنتم لا تحتاجون إلى تغيير حكمي فيها لقتال ولا غيره إن اتقيتم الله، فلا تخافوهم وإن زادت جموعهم وتضاعفت قواهم لأن الله يكون معكم {واعلموا أن الله} أي الذي له جميع العظمة معكم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعليقاً للحكم به وتعميماً فقال: {مع المتقين*} جميعهم، وهم الذين يثبتون تقواهم على ما شرعه لهم، لا على النسيء ونحوه، ومن كان الله معه نصر لا محالة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36) إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زُين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (37)} هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين وما يشرع من معاملتهم بعد الفتح، وسقوط عصبية الشرك، وكان الكلام في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهي به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم. وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية، والشهوات الحيوانية، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة، وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعاً. ومن ثم كان التناسب بين الكلام فيما يشترك فيه المسلمون مع أهل الكتاب من الوعيد على أكل أموال الناس بالباطل وكنز النقدين، إلى ما يجب أن يخالفوا فيه المشركين من إبطال النسيء ومن أحكام القتال تناسبا ظاهرا قويا، وهنالك مناسبة دقيقة بين حساب الشهور القمرية عند العرب وحساب الشهور الشمسية عند أهل الكتاب، وإن لم يصرح فيه بمخالفتهم في حسابهم. المراد الشهور التي تتألف منها السنة القمرية، وواحدها شهر، وهو اسم للهلال أو القمر من مادة الشهرة، ثم سميت به الأيام من أول ظهور الهلال إلى سراره، ومبلغ عدتها اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله، وأثبته من نظام سير القمر وتقدير منازل خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن، والمراد بيوم خلق السموات والأرض الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته في جملته، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما. فالكتاب يطلق على نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه؛ لأنه ثابت كالشيء المكتوب المحفوظ الذي لا ينسى، أو لأنه تعالى كتب كل نظام في خلقه في كتاب عنده في عالم الغيب يسمى اللوح المحفوظ، وقد فسر به الكتاب هنا. قال تعالى حكاية عن موسى في جوابه لفرعون على سؤاله عن القرون الخالية: {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه:52]، وقال: {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38]، وقال: {كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة: 22]، وقال: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء}، وهذا كله بمعنى النظام الإلهي القدري، وتقدم بحث كتابة المقادير في تفسير سورة الأنعام، وقيل: إن المراد بكتاب الله هنا حكمه التشريعي، لا نظامه التقديري، ومنه حرمة الأشهر الحرم، وكون الحج أشهرا معلومات. ومن أحكام كتاب الله التشريعية أن كل ما يتعلق بحساب الشهور والسنين كالصيام والحج وعدة المطلقات والرضاع فالمعتبر فيه الأشهر القمرية. وحكمته العامة أنها يمكن العلم بها بالرؤية البصرية للأميين والمتعلمين في البدو والحضر على سواء، فلا تتوقف على وجود الرياسات الدينية ولا الدنيوية ولا تحكم الرؤساء. ومن حكمة شهر الصيام وأشهر الحج أنها تدور في جميع الفصول فتؤدى العبادة بهذا الدوران في كل أجزاء السنة، فمن صام رمضان في ثلاثين سنة يكون قد صام لله في كل أجزاء السنة، ومنها ما يشق الصيام فيه وما يسهل. وكذلك تكرار الحج، وفيه حكمة أخرى في شأن الذين يسافرون له في جميع أقطار الأرض التي تختلف فصولها وأيام الحر والبرد فيها. وإطلاق «الكتاب» بهذا المعنى معروف، ومنه قوله تعالى بعد سرد محرمات النكاح {كتاب الله عليكم} [النساء: 24]، ولكن ذكر خلق السموات والأرض أشد مناسبة للأول، ويناسب الثاني قوله: {منها أربعة حرم} واحدها حرام «كسحب جمع سحاب»، وهو من الحرمة، فإن الله تعالى كتب وفرض احترام هذه الأشهر وتعظيمها، وحرم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعملي، ولكنها أخلت بالعمل اتباعاً لأهوائها كما يأتي بيانه في الكلام على النسيء في الآية التالية وهو الغاية لما في هذه الآية. وهذه الأشهر ثلاثة منها سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. وحكمة تحريم القتال فيها وتعظيمها ستأتي. {ذلك الدين القيم} الإشارة في قوله: {ذلك} لعدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها، وقيل لما تضمنه من تحريمها. والدين القيم هو الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه. والمعنى أن ذلك هو الحق الذي يدان الله تعالى به دون النسيء، وفسر البغوي الدين القيم هنا بالحساب المستقيم. وقال الجمهور: معناه ذلك الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في الحج وغيره مما يتعلق بالأشهر من الأحكام. {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} الضمير في «فيهن» للأربعة الحرم عند الجمهور، وقيل لجميع الشهور، وظلم النفس يشمل كل محظور، ويدخل فيه هتك حرمة الشهر الحرام دخولاً أولياً، فإن الله تعالى اختص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تستلزم ترك المحرمات فيها والمكروهات بالأولى، لأجل تنشيط الأنفس على زيادة العناية بما يزكيها ويرفع شأنها، فإن من طبع البشر الملل والسآمة من الاستمرار على حالة واحدة تشق عليها، فجعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة في أدائها كالصلوات الخمس، فإن أدنى ما تصح به صلاة الفريضة لا يتجاوز خمس دقائق للرباعية منها وهي أطولها وما زاد فهو كمال، وخص يوم الجمعة في الأسبوع بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين في التذكير، والموعظة الحسنة التي تقوي في المؤمنين حب الحق والخير، وكره الباطل والشر، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة مصالح الملة والدولة، وخص شهر رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وأياما معدودات من شهر ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها من أول ذي العقدة وما بعدها إلى آخر المحرم من الأيام التي يحرم فيها القتال؛ لأن السفر إلى مشاعر الحج في الحجاز والعودة منها تكون في هذه الأشهر الثلاثة، كما حرم مكة وما حولها في جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت، واحترام البيت الذي أضافه إلى نفسه، وشرع فيه من العبادة ما لا يصح في غيره. فكان الرجل يلقى قاتل أبيه في أرض الحرم وفي غيرها من الأشهر الحرم فلا يعرض له بسوء على شدتهم في الثأر، وضراوتهم بسفك الدم، وحرم شهر رجب في وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره، ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه. ولولا اختصاصه تعالى لما شاء من زمان ومكان بالعبادة فيه لما كان للأزمنة والأمكنة في نفسها مزية في ذلك، وأهواء الناس لا تتفق على زمان ولا مكان فيوكل ذلك إليهم، فلم يبق إلا أن يجعل الله الاختصاص أمرا تعبدياً خالصاً يفعل لمجرد الامتثال والقربة كما ورد في تقبيل الحجر الأسود من قول عمر رضي الله عنه: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك. {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} أي قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعاً، بأن تكونوا في قتالهم إلباَ واحداً لا يختلف فيه ولا يختلف عنه أحد، كما هو شأنهم في قتالكم، وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاما ولا عصبية ولا للكسب كدأبهم في قتال قويهم لضعيفهم، فأنتم أولى بأن تقاتلوهم لشركهم {وهم بدؤهم أول مرة} [التوبة: 13] وهذا لا يقتضي فرضية القتال على كل فرد من الأفراد إلا في حال إعلان الإمام للنفير العام وسيأتي في هذه السورة {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122]، وتقدم الكلام في حكم القتال في الأشهر الحرم في تفسير سورة البقرة. {واعلموا أن الله مع المتقين} للظلم والعدوان والفساد في الأرض بالشرك والمعاصي، ولأسباب الخذلان والفشل في القتال كالتنازع وتفرق الكلمة ومخالفة سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتقدم تفصيل القول في التقوى العامة والخاصة بالقتال في مواضعها من الآيات المناسبة لها، والمعية هنا النصر والمعونة والتوفيق لما فيه المصلحة، والتقوى من أسباب ذلك. ومن مباحث اللفظ في الآية كلمة«كافة»، لم ترد في التنزيل إلا منكرة منونة في أربعة مواضع: هذه الآية، وقوله تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} [البقرة: 208]، وفي أواخر هذه السورة {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122]، وفي سورة سبأ {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [سبأ:28]، وقد ظن بعض العلماء أنها لا تستعمل في العربية إلا هكذا وحكم بخطأ من استعملها معرفة باللام أو الإضافة، ورد عليهم آخرون بما نفصله في الحاشية ليقرأه وحده من أراده.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة.. ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة -تبوك- كان في رجب من الأشهر الحرم. ولكن كانت هناك ملابسة واقعة. وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي! وذلك بسبب" "النسيء" "الذي ورد ذكره في الآية الثانية -كما سنبين- فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك، إنما كان في ذي القعدة! فكأن رجب كان في جمادى الآخرة.. وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها؛ وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلاً؛ والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر، ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر! وبيان هذه القضية: أن اللّه حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية:ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع المفرد:رجب.. والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل.. وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم، وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام؛ فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه؛ لارتباطها بموسم الحج؛ الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين، وبخاصة سكان مكة. كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم، والانتقال إليه، والتجارة فيه! ثم كانت -بعد ذلك- تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر.. وهنا تلعب الأهواء؛ ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر، فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة، ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل (ليواطئوا عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه).. فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب، وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة! كان رجب هو جمادى الآخرة، وكان ذو الحجة هو ذا القعدة! وكان النفير في جمادى الآخرة فعلاً وواقعاً، ولكنه كان في رجب اسماً بسبب هذا النسيء! فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء؛ وتبين مخالفته ابتداء لدين اللّه، الذي يجعل التحليل والتحريم [والتشريع كله] حقاً خالصاً للّه؛ وتجعل مزاولته من البشر -بغير ما أذن اللّه- كفراً.. بل زيادة في الكفر.. ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب. وفي الوقت ذاته تقرر أصلاً من أصول العقيدة الأساسية؛ وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على اللّه وحده. وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله، يوم خلق اللّه السماوات والأرض. فتشريع اللّه للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس. والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه؛ فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.. وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص، تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة، من اعتبار أهل الكتاب مشركين، وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين. والأمر بقتالهم كافة.. المشركين وأهل الكتاب.. كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة.. الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله؛ كما تقرره من قبل كلمات اللّه -سبحانه- وهي تعبر عن وحدة الهدف تماماً بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين، وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين، مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك، لا تقدم شيئاً ولا تؤخر في تجمعهم جميعاً في وجه الانطلاق الإسلامي؛ وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي. وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين، وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة.. بالإضافة إلى الحقيقة الأولى:وهي أن النسيء زيادة في الكفر، لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل اللّه، فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه.. هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق؛ الذي يعالج المعوقات دون النفير العام، والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب.."
إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره اللّه عليها. وإلى أصل الخلقة. خلقة السماوات والأرض. ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة، مقسمة إلى اثني عشر شهراً. يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر؛ فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة. وأن ذلك في كتاب اللّه -أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون. فهي ثابتة على نظامها، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة. لأنها تتم وفق قانون ثابت، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده اللّه يوم خلق السماوات والأرض: هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها، ليقول: إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس اللّه ثابت كثباتها، لا يجوز تحريفه بالهوى، ولا يجوز تحريكه تقديماً وتأخيراً، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت، وفق ناموس لا يتخلف: (ذلك الدين القيم).. فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل، الذي تقوم به السماوات والأرض، منذ أن خلق اللّه السماوات والأرض. وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة.. يتبع بعضها بعضاً، ويمهد بعضها لبعض، ويقوي بعضها بعضاً. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهداً أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه. ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره، وثبات أسسه، وقدم أصوله.. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة. (ذلك الدين القيم. فلا تظلموا فيهن أنفسكم).. لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض. ذلك الناموس هو أن اللّه هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون.. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها اللّه لتكون فترة أمان وواحة سلام؛ فتخالفوا عن إرادة اللّه. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب اللّه في الآخرة، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض، حين تستحيل كلها جحيماً حربية، لا هدنة فيها ولا سلام. (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة).. ذلك في غير الأشهر الحرم، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة، المنوط بها حفظ الحرمات، ووقف القوة الشريرة المعتدية؛ ويشيع الفساد في الأرض؛ والفوضى في النواميس. فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم، فلا يعتدى عليها ولا تهان. (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة).. قاتلوهم جميعاً بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة، فهم يقاتلونكم جميعاً لا يستثنون منكم أحداً، ولا يبقون منكم على جماعة. والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد. وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال. معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل. لأن الخلاف بينهما ليس عرضياً ولا جزئياً. ليس خلافاً على مصالح يمكن التوفيق بينها، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها. وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين- وثنيين وأهل كتاب -إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية، أو معركة وطنية، أو معركة استراتيجية.. كلا. إنها قبل كل شيء معركة العقيدة. والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة.. أي الدين.. وهذه لا تجدي فيها أنصاف الحلول. ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات. ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل. سنة اللّه التي لا تتخلف، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض، وتقوم عليه العقائد والأديان، وتقوم عليه الضمائر والقلوب. في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السماوات والأرض. (واعلموا أن اللّه مع المتقين).. فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات اللّه. وأن يحلوا ما حرم اللّه، وأن يحرفوا نواميس اللّه. فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل. فهو جهاد في سبيل اللّه يقفون فيه عند حدوده وآدابه؛ ويتوجهون به إلى اللّه يراقبونه في السر والعلانية. فلهم النصر، لأن اللّه معهم، ومن كان اللّه معه فهو المنصور بلا جدال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] بعدما عَقِبَ ذلك من التفاصيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم. والمقصود: ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها. وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها. وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ.
... وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الإنسان، ويجعله خليفة في الأرض؛ خلق له كونا مُعَدّا إعدادا حكيما لاستقباله، فقدَّر في الأرض الأقوات وجعل الشمس والقمر وأنزل المطر، فكل ما يقيم حياة الإنسان كان موجودا في الكون قبل أن يأتي الإنسان إليه. والإنسان جعله الله خليفة في الأرض وله حركة، وهي الأحداث التي تقع منه أو تقع فيه أو تقع عليه، والأحداث تتطلب زمانا ومكانا، ولذلك خلق الله لها الزمان والمكان. إذن: فالحياة كلها تفاعل بين حركة الإنسان الخليفة وبين الزمان والمكان. وكما أعدَّ الله سبحانه وتعالى للإنسان في كونه مقومات حياته اليومية.. أنزل له القيم التي تحفظ له معنويات حياته، وأراد بها الحق سبحانه وتعالى أن تتساند حركة الإنسان ولا تتعاند، ومعنى التساند أنْ تتحد حركة الناس جميعا في إيجاد النافع لمزيد من الإصلاح في الأرض، أما إن تعاندت حركات البشر ضد بعضها البعض، فإن الفساد يظهر في الأرض؛ لأن كل واحد يريد أن يهدم ما فعله الآخر. ولكي تتساند حركات الإنسان في الكون؛ فلا بد من مُشرّع واحد-وهو المشرع الأعلى- يعطي قوانين الحركة البشرية لكل الناس. وإن ابتعد الناس عن تشريعات الله تعالى، وأخذوا يُقنّنون لأنفسهم، تجد قوانين البشر تتبع أهواءهم، وكل واحد يحاول أن يحصل على مَيْزات لنفسه، ويأخذ حقوق الآخرين؛ فتفسد الحياة، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ} (المؤمنون: 71). إن اتباع الحق لأهوائهم سيُخضعُ الكون لأهواء البشر، هذا يريد وهذا لا يريد، والحق سبحانه يريد في الكون حركة السلام والأمن والاطمئنان، وهذه لا تتم إلا إذا التزم كل إنسان بمنهج الله؛ حينئذ يوجد سلام دائم ومستوعب شامل، مستوعب لسلام الإنسان مع نفسه، ولسلام الإنسان مع الكون، ولسلام الإنسان مع الله، لكن الإنسان الذي خلقه الله مُخيَّرا وأنزل له المنهج بالتكليف، في إمكانه أن يطيع هذا المنهج أو أن يعصيه. وإن عصى الإنسان المنهج فهو يفسد في الأرض وينشر فيها الظلم والفساد. وأراد الحق سبحانه أن يضع للسلام ضمانا، وهو أن توجد قوة تقف أمام الفساد في الأرض، لذلك شاء الحق أن يكون للحرب وجود في هذا الكون؛ لتتصارع الإرادات، فمادام للإنسان اختيار، ومادام هناك من يعصى ومن يطيع، فلابد أن يحدث الصراع. أما الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها فهي لا تعكر السلام في الكون، فلن تقوم ثورة –مثلا- لكي تشرق الشمس، أو تشتعل حرب لإنزال المطر، لأن هذه الأمور تسير بقوانين القهر التي أرادها الله لها، وتعطي نفعها للجميع، ولكن الفساد يأتي من انحراف الناس عن منهج الله، ومادام في الكون حراس للمنهج من البشر، بحيث إذا انحرف إنسان ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم؛ فإن الحياة المطمئنة الآمنة تبقى. ولكن إن عمَّ الفساد، ولم يوجد في المجتمع من يقف ضده تعاندت حركات الحياة وتعب الناس في حياتهم وأرزاقهم. ولكي يسود السلام في الكون؛ وضح الحق سبحانه في الزمن وفي المكان حواجز أمام طغيان النفوس، عَلَّها تفيق وتعود إلى الحق، فجعل في الزمان أشهرا حُرما يمتنع فيها القتال، ويسود فيها السلام بأمر السماء، وأراد الحق أن يكون هذا السلام القسري فرصة تجعل هؤلاء المتحاربين يفيقون إلى رشدهم وينهون الخلاف بينهم، كذلك خصَّ الله بعض الأماكن بتحريم القتال فيها، فإذا التقى الناس في هذه الأماكن كانت هناك فرصة لتصفية النفوس وإنهاء الخلاف. والإنسان في حربه مع أخيه الإنسان يُنهك بنيران ونتائج الحرب، تنهكه دما، وتنهكه مالا، وعتادا، ويصيب الضعف الإنسان نتيجة هذه الإنهاكات منتصرا كان أم مهزوما، ولكنه أمام عزة نفسه في مواجهة خصمه يريد أن يستمر في الحرب حتى لا يظهر أمام الخصم بأنه قد ذُلَّ. فيشاء الله برحمته لخلقه أن يجعل في الزمان وفي المكان ما يحرم فيه القتال؛ حتى لا يقال: إن قبيلة ما أو جماعة قد أوقفت القتال خوفا من خصومها، أو لأن خصومها هم الأقوى، ولك ليقول الناس: إنهم أوقفوا الحرب بأمر من الله وبهذا يحتفظ كل طرف من الأطراف المتحاربة بكرامته، فيسهل الصلح وتسلم الأرواح والنفوس. وكذلك إن لجأ واحد من المتحاربين إلى المكان أو الأماكن التي يحرم الله فيها القتال، أمن على نفسه، وفي هذا منه للشر أن يستمر، وصون للنفوس من المهانة والذلة والانكسار أمام الغير؛ لذلك أراد الله أن يوضح لنا: أنا خالقكم، وأنا الرحيم بكم، وسأجعل لكم من الزمان زمانا أحرم فيه القتال، وأجعل لكم مكانا مَنْ دخله كان آمنا، فاستتروا وراء ذلك وكُفُّوا عن القتال. وهذه هي بعض من رحمة الله، يعطي بها الله سبحانه للناس فرص الحياة، وهذا من عطاءات الربوبية، وعطاء الربوبية من الله لخلقه جميعا، المؤمن منهم والكافر، والطائع والعاصي، وكل نعم الكون من عطاءات ربوبية الله. إن عطاءات الله سبحانه لا تفرق بين المؤمن والكافر، فالأرض مثلا لا تعطي الزرع للطائع وتمنعه عن العاصي، والشمس لا تضيء وتسقط دفئها وحرارتها للمؤمن دون الكافر؛ فَنعَمُ الكون المادية كلها من عطاء ربوبية الله سبحانه وتعالى لخلقه. الأسباب-إذن- هي للناس جميعا، ولهم أن يتخذوا الأزمان المواتية لحركة الحياة كما يحبون، فيسيرون الزراعات على أي تقويم، ويحددون المواسم على حسب ما يفيدهم، وهم يحددون بذلك مصالحهم المادية التي هي من عطاءات الربوبية. ولكن الله رب قَيِّم، ولذلك فهناك عطاء ألوهية لله في المنهج الذي أرسل به الرسل للناس فأوضح: أنا أختار الزمان الذي أجده مناسبا للقيم والمعاني السامية، وأختار الأماكن المناسبة للقيم والمعاني السامية. وأراد الحق سبحانه وتعالى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يشيع اصطفاء المكان والزمان لكل الزمان والمكان. والشهور والأزمان عند الله هي اثنا عشر شهرا، ومادام قد قال: {عند الله}، فهناك "عند "غير الله؛ وهناك "عند" الناس. وأوضح سبحانه لخلقه: قَدِّروا أزمانكم بمصالحكم، وهذا ما يحدث في الواقع المعاش.. إنك تجد من يزرع حسب التقويم القبطي، حيث تكون شهور الصيف فيه ثابتة، وكذلك شهور الشتاء والربيع والخريف؛ لأن التقويم القبطي قائم على التقويم الشمسي. ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد للقيم أزمانا مخصوصة؛ لذلك قال: {إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا} وأوضح سبحانه: لا تجعلوا زمن القيم كالأزمان التي تجعلونها لمصالحكم. وأراد الله سبحانه أن تعم القِيَم كل الزمن، ولا تكون مقصورة على أزمان معينة، ولذلك اختار سبحانه أزمانا للصلاة مثلا، فصلاة الصبح لها وقت، وصلاة الظهر لها وقت، والعصر لها وقت، والمغرب لها وقت، والعشاء لها وقت. ولكن أوقات الصلاة رغم أنها محددة فهي تشمل الزمن كله؛ فالصلاة تقام مثلا في أسوان، وبعد دقائق في الأقصر، وبعد دقائق في القاهرة، وبعد دقائق في الإسكندرية، ثم تندرج إلى دول أوربا، وهكذا. فكأنها لا تتوقف عند فترة معينة، بل هي مستمرة حسب اختلاف الأوقات في الدول المختلفة، فصلاة الفجر-على سبيل المثال- قبل شروق الشمس. والشمس تشرق في كل دقيقة على بقعة مختلفة من الأرض. فكأن الصلاة دائمة على سطح الأرض. بل أكثر من ذلك نجد أننا في الوقت الذي نصلي فيه نحن الظهر، قد يصلي غيرنا العصر في شمال أوربا، والمغرب في أمريكا، والعشاء في كندا مثلا، فكأن الصلاة تقام في كل وقت على ظهر الأرض؛ ذلك لأن الكون كله مُسبِّح لله. ونأتي بعد ذلك إلى اختيار الله ليوم وقفة عرفات، ولشهر الصوم وغير ذلك من الأوقات، فشهر رمضان يأتي مرة في الصيف، كما يأتي في الشتاء وفي الربيع، وفي الخريف. كذلك الحج يأتي في فصول السنة المختلفة. وهكذا شاء عدل الله أن تكون الأيام المفضلة عنده مُوزَّعة على الزمن كله. وجعل الحق سبحانه وتعالى وحدة الزمن هي اليوم، واليوم يتكون من الليل والنهار، والأيام وحدتها الشهر، والشهور وحدتها العام، وجعل من مهمة الشمس أن تحدد لنا اليوم، ومن مهمة القمر أن يحدد لنا الشهر؛ فهو في أول الشهر هلال، ثم تربيع أول وتربيع ثان فبدْر إلى آخره. إذن فالقمر هو الذي يحدد بداية الشهر ونهايته. ولقد حدد الحق سبحانه شهور العام، فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} وقال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}. ولكن لماذا لم يجعل الحق كل الأشهر سلاما؟ نقول: إن الحق في تشريعه أراد أن يسود السلام، ولكن الحرب أيضا قد تكون سببا لتحقيق السلام، فليس كل إنسان أو مجتمع يسير على الجادة، فمن الممكن أن تخرج جماعة عن الجادة، ولهذا لابد من قتل تلك الجماعة، ولابد كذلك من وقفة للخير أمام الشر، ومادام الإنسان له اختيار؛ فقد يسير في اختياره إلى ناحية السوء؛ لذلك لابد أن يضرب المجتمع على يد المسيء، وإذا ما اختارت دولة قتال دولة أخرى اعتداء، فالحرب ضرورة للدفاع. وكذلك لو أن الحق قد جعل العام كله أياما حُرُما لأذلَّ الكفار والمشركون والمؤمنين؛ لأن الكفار والمشركين سيعصون الله ويحاربون، والمؤمنون ملتزمون بأمر الله، فكأن الله قد فرض العبودية على المؤمن به. وأعطى السيادة لغير المؤمن. ثم إن قوى الخير والشر تتصارع في هذا الكون، وقوى الحق والباطل تتقاتل، ولابد من وقفة للحق أمام الباطل، ولذلك أباح الحق في الأشهر الحرم القتال، حتى إذا استشرى الباطل تصدى له بالقوة، ولذلك قال شوقي: الحرب في حقٍّ لديكَ شريعةٌ *** ومِنَ السّموم النّاقعات دواء
إذن: فقد شاء الله أنن يوجد من يقاوم الباطل، وضمن للحق أن يحارب الباطل ويواجهه؛ لذلك لم يشرع تحريم القتال في العام كله. ولكنه شرع هذا التحريم فقط أربعة أشهر يذوق الناس فيها حلاوة السلام ويتوقف فيها القتال وتتاح الفرصة للصلح. ولقد أوجد سبحانه في الكون سُنّة، هي أنه إذا ما التقى حق وباطل في المعركة فالباطل يهزم في وقت قصير. وإن رأيت معركة تطول سنوات طويلة فاعرف أنها بين باطل وباطل، وإذا قامت الحرب بين باطل وباطل فإن السماء لا تتدخل، وأما إذا قامت المعركة بين حق وباطل فإن السماء تنصر على الباطل. ولا تقوم معركة بين حَقَّيْنِ أبدا، لأن الحق في الدنيا كلها واحد، فلا يوجد حقان، بل حق وباطل، وإن وجد الصراع فإنه لا يطول بينهما، لأن الباطل زهوق بطبيعته، وإن وجدت حرب بين باطلين، فالسماء توضح لنا أنه لا يوجد باطل منهما أولى بأن ينصره الله على الآخر؛ بل يترك سبحانه هذا الصراع أسبابهم؛ مما يطيل أمد الحرب. وحين شرع الله الأشهر الحرم، ضمن الناس مطلوبات السلام الدائم، لأن الناس تنهكهم الحرب ويحبون أن يرتاحوا منها، فإذا جاءت الأشهر الحرم كانت فرصة للناس ليوقفوا الحرب، دون أن يشعر أحدهم بالذل والهوان والهزيمة، ونحن نلجأ إلى ذلك أحيانا، فإذا كنا في بيت يسكنه عدد من الناس –كما يحدث في الريف- وسُرق شيء ثمين من هذا البيت، والسارق من السكان ونريد منه أن يعيده دون أن ينكشف أمره فهم يحددون مكانا معينا، وكل واحد من سكان البيت يأتي ليلا ويضع حفنة من التراب في هذا المكان، لعل السارق يضع ما سرقه بين حفنة التراب، وهو بذلك يأخذ فرصة من مجتمعه الصغير ليعيد ما سرقه دون أن يعرفه أحد، وفي هذا ستر له فلا ينفضح أمام الناس. والأشهر الحرم فرصة للسلام دون أن ينفضح أحد من الأطراف المتحاربة أمام الناس بأنه ضعيف أو غير قادر على الاستمرار في الحرب، وتتوقف خلالها وقد ستر الله كل أطرافها، وتقوى خلالها أكبر للسلام والصلح، وبذلك تكون فرص السلام أكبر من فرص الحرب بكثير. ولكن ماذا يحدث عندما يتعدى عصاة غير مطيعين لله على المؤمنين في الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها؟ إن الحق سبحانه لا يعني بتشريعاته أبدا أن تكون مصدر إذلال للمؤمنين وإعزاز للكافرين؛ ولذلك ينبهنا إلى أننا يجب ألا نسمح لأعداء الله بأن يستغلوا حرمة الأشهر الحرم ليتمادوا في العدوان على المؤمنين، فأباح للمؤمنين القتال في هذه الأشهر إذا قاتلهم الكفار فيها، وكذلك في الأماكن المحرّم القتال فيها، فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ... (217)} (البقرة). وهكذا أباح الله القتال في الشهر الحرام ليدافع المؤمنون فيه عن أنفسهم إذا بدأهم الكفار بالقتال، وأباح الحق سبحانه أيضا القتال في المسجد الحرام إذا قام الكفار بقتال المؤمنين فيه، رغم أننا نعلم أن تحريم القتال في المسجد الحرام هو تحريم دائم، ولكن الحق سبحانه وتعالى وضع استثناء فقال: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)} (البقرة). وهكذا جاء التقنين الإلهي ليحمي المؤمنين من طغيان الكافرين، فالمؤمنون يلتزمون بعدم القتال في الأشهر الحرم كما أمر الله؛ بشرط التزام الطرف الآخر الذي يقاتلهم، فإن لم يلتزم الكفار بهذا التحريم، فسبحانه لا يترك المؤمنين للهزيمة، وهكذا شاء الحق أن يضع التشريعات المناسبة لهذا الموقف. فإن احترمها الطرفان كان بها، أما إن خالفها الكفار فقد سمح الله للمؤمنين بالقتال. وهنا يقول سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} والكتاب يطلق على الشيء المكتوب المدوَّن، ولا يُدوّن الكلام إلا إذا كانت له أهمية ما، أما الأحاديث التي تتم بين الناس فهم لا يكتبونها ولا تُدوّن. بينما الكلام المهم وحده هو الذي يُكتب حتى يكون حجة في الاستشهاد به في حالة وجود خلاف. ولكن أين {كتاب الله} الذي كُتب فيه هذا؟. إن اللوح المحفوظ عند الله، والمهيمن على كل الكتب التي نزلت في مواكب الرسل، ويقصد بالكتاب-أيضا- القرآن الكريم الذي نزلت فيه هذه الآية، وقد جاء القرآن جامعا لمنهج الله بدءا بآدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. وتغير في القرآن الكريم كثير من الأحكام الموجودة في الرسالات السابقة، أما العقائد فهي واحدة. كما أن القرآن قد تضمن الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت نزوله، والمثال هو قوله الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِّلةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ... (189)} (البقرة) وأيضا يقول الحق سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ... (5)} (يونس). فكأنه ربط السنين والحساب والقمر، وهذا الحساب هو من ضمن إعجازات الأداء البياني في القرآن؛ لأن العالم قد بحث عن أدق حساب للزمن، فلم يجد أدق من حساب القمر، وكل الأحياء المائية تعتمد في حسابها على الحساب القمري، والله سبحانه يريد منا أن نقرأ كتابا أن نتمعن في وضع الألفاظ في موضعها. فيقول سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} وبعد ذلك يأتي باستثناء هو: {منها} أي من الاثني عشر شهرا {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الله: "فيها" بدلا من {فيهنّ} مادام قد قال من قبل: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}؟. ونقول: إن الحق ينهى عن الظلم العام في كل الشهور، وإن كان المقصود الأشهر الحرم الأربعة، فالمقصود النهي عن ظلم الحرب. وهنا قاعدة لغوية يجب أن نلتفت إليها؛ وعندنا في اللغة جمع قلة وجمع كثرة؛ جمع القلة من ثلاثة إلى عشرة؛ ويختلط الأمر على بعض الناس في مسألة جمع القلة وجمع الكثرة، وجمع التكسير وجمع الصحيح. فجمع القلة وجمع الكثرة، غير جمع التكسير، والجمع الصحيح؛ لأن التكسير هو تكسر بنية الكلمة، فمثلا بيت جمعها بيوت، ورسول جمعها رسل؛ هنا كسرْتَ بنية الكلمة أي: غيٍَّرتها. أما إن قلت: "مسلم" فجمعها "مسلمون"، وهنا تضيف" واوا ونونا"، ولكن كلمة "مسلم" صحيحة، أي أننا لم نكسر المفرد. ولكن إن قلت: "سفينة" وجمعها "سفن" تكون قد كسرت المفرد. وقول الحق هنا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} فما دام العدد هو اثنا عشر شهرا تكون قد زادت عن جمع القلة؛ لأن جمع القلة من ثلاثة إلى عشرة، وجمع القلة يعاملونه معاملة الجماعة. وإن زاد على عشرة يعاملونه معاملة المفرد المؤنث، مثل وضع الشهور الأربعة المحرمة في كتاب الله، ولذلك قال: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وجاء هنا ب "نون النسوة" للجمع. والقاعدة-كما قلنا- إن جمع القلة يعامل معاملة الجماعة، فإن كان جمع كثرة عومل معاملة المفرد المؤنث، لأن الفرد يكون معصوما بالجماعة، أي أنه بمفرده ضعيف. فإن وجد جماعة ينتمي إليها فهو يُحسُّ بالقوة. إذن: فالفرد يعصم بالجماعة، وبهذا تعامل الجماعة كلها كهيئة واحدة، وهناك شاعر يستهزئ بقوة جماعة ما، فيقول: لا أُبالي بجمعهنّ فجم *** عهنّ كُلّ جمع مؤنّث إذن: فكل جمع يكون مؤنثا، وهذا ما ينطبق على قوله سبحانه وتعالى هنا: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. وأكرر: إن أردت الظلم العام فإن الله قد حرم الظلم في كل شهور السنة، سواء ظلمك لنفسك أو ظلمك للناس، وإن أردت من معنى الكلام تحريم الحرب في الأشهر الحرم تكون: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قد أتت بالمؤنث. ومعنى قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: إياكم أن تظنوا أن مخالفتكم لمنهج الله يحدث منها شيء يضر الحق سبحانه، فكل ما يحدث من ظلمكم لأنفسكم هو أن تضروا أنفسكم أو غيركم، لكن لن يضر أحدكم الله؛ لأن صفات الله في الكون لا تتأثر أطاع الخلق أم عَصَوا. ولذلك فإن اتباع منهج الله هو أمر لصالح الناس، لصالحنا نحن، فانصرافنا عن المنهج لا يضر الله سبحانه شيئا ولكن يضرنا نحن، فكل ما أنزله من قيم هو لصالحنا حربا وسلاما، وتحريما وتحليلا. ولكن لماذا خصًّ الحق سبحانه الشمس بحساب اليوم، والقمر بحساب الشهر؟ وأقول: لأن الله سبحانه يريد أن يوزع الفضل على كل الزمن، وأن يسير على الناس أداء مناسكه وما يكلفهم به. فلو حسبت الشهور بالشمس لكان ميعاد الحج كل عام في أشهر الصيف دائما، ومن يعيش مثلا في بلاد باردة إن ذهب إلى الحج صيفا يتعرض لأخطار شديدة، فكأنه ليس هناك عدل بين الذين يعيشون في مناطق باردة، والذين يعيشون في مناطق حارة في أداء مناسك الحج، فلو كان ميعاد الحج هو الصيف دائما، فسوف يؤديه الذين يعيشون في المناطق الحارة بسهولة، بينما يؤديه من يحيا في المناطق الباردة بصعوبة، ولتمام عدل الله بين خلقه نجده سبحانه قد أدار الأشهر القمرية في السنة الميلادية، فلا يأتي الحج أبدا في طقس واحد، وبذلك تستوي كل البيئات وكل الناس في أحكام الله. وأيضا صوم رمضان لو كان يأتي في الصيف دائما، لوجدنا بعض الناس سيصومون ثماني أو تسع ساعات، والذين يعيشون قرب القطب الشمالي يصومون عشرين ساعة في اليوم، ولكن مجيء رمضان في فصول السنة كلها يجعل أولئك الذين يعيشون قرب القطب الشمالي يصومون مرة تسع عشرة ساعة مثلا، ومرة ساعتين أو ثلاثا، وهذه تعوض تلك، فيتم العدل، وإذا أخذنا متوسط ساعات الصيام بالنسبة لهؤلاء الناس على مدار السنة، نجد أن فترات صومهم فترة تسع عشرة ساعة وفترات ثلاث ساعات، وبذلك يتساوون في المتوسط مع أولئك الذين يصومون ثماني أو تسع ساعات يوميا. ونجد بالحساب أن تقويم الهلال ينقص عن تقويم الشمس بمقدار أحد عشر يوما وثلث يوم كل عام، ويكون الفرق عاما كاملا كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث العام، أي أن رمضان يأتي مرة في يناير ومرة في فبراير ومرة في مارس، وكذلك الحج، وبذلك تتكافأ الفرص بين المؤمنين جميعا، فالذين يصومون في الصيف المعروف بيومه الطويل، يصومون في الشتاء ويومه قصير. والذين يعانون من الصوم في حرارة الجو، يصومون أيضا في برد الشتاء، وهكذا يدور رمضان والحج في شهور العام كله، وبذلك يتم عدل الله على الجميع بالتشريع الحق، ويدور التكليف مشقة ويُسْرا وصعوبة وسهولة على جميع المؤمنين. وإذا نظرنا إلى ربط اليوم بالشمس نجد أن الحق سبحانه وتعالى الذي ربط أوقات الصلاة بالشمس، كفل لها الدوام التكليفي، لماذا؟. لأن القمر نراه أياما، ولكننا لا نراه في أيام المحاق، فلو ربطنا الصلاة بالقمر لضاع منا الدوام، مضافا إلى ذلك أن القمر يظهر لنا في أوقات غير متساوية؛ فعندما يكون هلالا لا يظهر للعين في الأفق إلا دقائق معدودة، ولكن الشمس تشرق كل يوم في وقت محدد، وتغيب كل يوم في وقت محدد، وهي بضوئها ظاهرة للناس كل الناس من الشروق إلى الغروب، فلا يجدون مشقة في رؤيتها. ولذلك فربْطُ الصلاة بالشمس فيه يُسْر التكليف ودوامه، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين" وهي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي لا يسقط أبدا؛ لأن الفقير تسقط عنه الزكاة، والمريض يسقط عنه الصوم، وغير المستطيع يسقط عنه الحج، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يكفي أن تقال مرة واحدة في العمر، ولكن إقامة الصلاة لا تسقط أبدا. إذن فهي عماد الدين، ولذلك تتكرر خمس مرات يوميا لكل أهل الأرض، فالصبح في دولة قد يكون ظهرا في دولة ثانية، وعصرا في دولة ثالثة ومغربا في دولة رابعة وعشاء في دولة خامسة؛ وذلك بسبب فروق التوقيت بين دول العالم، وهكذا تكون في كل لحظة من الزمن جميع أوقات الصلاة قائمة على الأرض، فيظل الله سبحانه وتعالى معبودا بالصلاة في كل الزمن في كل بقاع الأرض. وهكذا يرتفع الأذان: الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أ محمدا رسول الله في كل لحظة على الأرض. قد نجد رجلا أميا لا يعرف القراءة أو الكتابة، لكن له إشراقات نورانية، أفاض الله عليه يقول: يا زمن وفيك كل الزمن، أي يا فجر وفيك كل أوقات الصلاة على سطح الأرض. ولذلك فظاهر الأمر أن الصلوات خمس، والحقيقة أن الصلاة دائمة على وجه الأرض في كل ثانية، ولا يوجد جزء من الزمن إلا والله معبود فيه بعبادات كل الزمن، أي أنه في كل لحظة تمر نجد الله معبودا بالصلوات الخمس على ظهر الأرض. وهذا سبب ربط الصلاة بالشمس. وإذا عرفنا هذه الحقيقة، وعلمنا أن الكون كله يصلي لله في كل لحظة من الزمن، فإننا نعلم أن القرآن يتسع لأشياء كثيرة، وأن كل جيل يأخذ من القرآن على قدر عقله، فإذا ارتقى العقل أعطى القرآن عطاء جديدا. وهذا ما يؤكد أن آيات القرآن يتسع إدراكها في الذهن كلما مر الزمن، فننتبه إلى معادن جديدة لم نكن ندركها. وعندما يأتي المستشرقون ليقولوا: إن في القرآن تناقضا في الكونيات. نقول لهم: مستحيل. فيقولون: لقد جاء في القرآن: {قال ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تَعقلون (28)} (الشعراء) ويقول: {ربّ المشرقين وربّ المغربين (17)} (الرحمن) ويقول: {فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب... (40)} (المعارج) وبين هذه الآيات تناقض ظاهر. ونرد: إن التقدم العلمي جعلنا نفهم بعمق معنى هذه الآيات، فكل مكان على الأرض له مشرق وله مغرب، هذه هي النظرة العامة، إذن فقوله تعالى: {ربّ المشرق والمغرب} صحيح، ثم عرفنا أن الشمس حين تشرق عندي، تغرب عند قوم آخرين، وحين تغرب عندي تشرق عند قوم آخرين، إذن فمع كل مشرق مغرب ومع كل مغرب مشرق، فيكون هناك مشرقان ومغربان. ثم عرفنا أن الشمس لها مشرق كل يون ومغرب كل يوم يختلف عن الآخر. وفي كل ثانية هناك شروق وهناك غروب، لإذن فالقسم هنا {بربّ المشارق والمغارب}؛ لأن المشارق والمغارب مختلفة على مدار السنة. فإذا سأل أحدهم: لماذا تخصون القمر لحساب الزمن وتخصون الشمس لحساب اليوم؟ نقول: إن الشمس مرتبطة بعلامة يومية ظاهرة وهي النهار، واختفاؤها عنك مرتبط بعلامة يومية ظاهرة وهي الليل. ولكن القمر غير مرتبط بعلامة يومية، صحيح أن القمر موجود دائما، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يدركه أو يراه إلا في أوقات محددة. بعض الناس يقول: إذا كان المقصود بهذه الآية-التي نحن بصدد خواطرنا عنها- هو بيان الأشهر الأربعة الحرم، فما فائدة باقي أشهر السنة؟. ونقول: إنك لن تستطيع أن تحدد الأشهر الحرم إلا من خلال بيان وتوضيح أمر السنة ومعرفة عدد أشهرها، وهذا أمر ضروري أيضا حتى تستطيع أن تحدد الأشهر الأربعة الحرم في العام. وإلا كيف يمكن أن نميز هذه الأشهر وزمنها؟ لابد لنا إذن من أن نعلم أن هناك عاما، وأن العام فيه اثنا عشر شهرا لنستطيع أن نحدد الأشهر الحرم. والأشهر الحرم منها ثلاثة متتابعة وشهر فرد، والأشهر المتتابعة هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر رجب هو الشهر الفرد. وتحديد الحق لهذه الأشهر الأربعة يعني أنها تتميز بخصوصيات؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو أراد أن تكون هذه الشهور في أي وقت من السنة لتركها لنا لنحددها بمعرفتنا فنختار أي أربعة أشهر على هوانا، لنمتنع فيها عن القتال، ولكن كون الله تبارك وتعالى حددها فذلك لخصوصيات فيها. جاء البعض وقال: مادام سبحانه وتعالى قد جعل الشهور اثني عشر شهرا وجعل منها أربعة حرما، ونحن نريد أن نحارب في شهر المحرم فلنفعل ذلك ونمتنع عن القتال في شهر آخر غيره، وبذلك نكون قد حافظنا على عدد الأشهر الحرم وهي أربعة كما حددها الله. ونقول: إنكم حافظتم على العدد ولم تحافظوا على المعدود. ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين الأربعة الأشهر المقصودة بالآية الكريمة من الاثني عشر شهرا، لأصبح من حق كل جماعة أن تختار ما تريده من أشهر السنة، ولكنه صلى الله عليه وسلم خصصها؛ لأننا علمنا بذلك كيف نحافظ على الفرق بين العدد والمعدود. إن مسألة العدد والمعدود حَلَّتْ لنا إشكالات كثيرة، منها إشكالات أثارها المستشرقون الذين يريدون أن يسيئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الزواج كان مطلقا عند العرب، ثم حدد الله سبحانه وتعالى عدد الزوجات بأربع، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام الذين كانوا قد تزوجوا بأكثر من أربع زوجات أن يمسك الواحد منهم أربعا ويفارق الباقيات، وأضاف المستشرقون تساؤلا: إذا كان الرسول قد شرع للناس، فلماذا لم يطبق هذا الأمر على نفسه، ولماذا اتخذ تسع زوجات؟. ونقول: إننا إذا قمنا بعملية حسابية منصفة، لوجدنا أنها ليست توسعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي تضييق عليه، فأنت حين تأخذها من ناحية العدد فقط تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ تسع زوجات وأمته أخذت أربعا، ولكنك لم تلاحظ مع العدد المعدود، أي أنه إذا ماتت زوجاتك الأربع أحلت لك أربع أخريات، وإن ماتت واحدة أحلت لك أخرى، إذن فأنت-كمسلم- عندك عدد لا معدود، بحيث إذا طلَّقْتَ واحدة أو اثنتين حلَّت لك زوجة أو زوجتان أخريان، فأنت مُقيَّد بالعدد، ولكن المعدود أنت حُرٌّ فيه. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نزلت فيه هذه الآية الكريمة: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ... (52)} (الأحزاب). وهكذا نجد أن التشريع ضيَّق على رسوله صلى الله عليه وسلم في المعدود. وكان استثناؤه عليه الصلاة والسلام في العدد للتشريع، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتزوج بإرادة التشريع التي يشاؤها الله. وسبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض}. وعرفنا قوله سبحانه: {في كتاب الله} معناها اللوح المحفوظ أو القرآن، وقوله تعالى: {يوم خلق السماوات والأرض} معناه: أنها مسألة لم تطرأ على الكون، ولكنها محسوبة من قبل أن يُخلقَ الإنسان. فهي إذن مسألة من النظام الكوني الذي خُلق عليه الكون. وهو سبحانه قد خلق الكون بدقة وإحكام، فكأن الحق يريد أن يلفتنا إلى أن من مهام الشمس والقمر أن يكونا حسابا للزمن، لليوم والشهر والعام، ولذلك يقول سبحانه: {الشمس والقمر بحسبان (5)} (الرحمن) أي: أنهما خُلقا بحساب دقيق، ويقول سبحانه: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} (الأنعام: 96) أي: أنه سبحانه يطالبنا بأن نستخدم الشمس والقمر حسابا لنا. وهذا يتفق مع منطق الأمور، فالشيء الذي تريد أن تتخذه حسابا لك، لابد أن يكون مصنوعا بحساب دقيق. ولذلك فإن الساعة مثلا إن لم تكن مصنوعة بدقة فإنها لا تصلح قياسا للوقت؛ لأنها تقدم أو تؤخر. ولكن إن كانت مصنوعة بحساب دقيق فهي تعطيك الزمن الدقيق. إذن: فدقة قياس الزمن تعتمد أساسا على دقة صناعة آلات القياس. وقبل أن يُنزل الحق هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، كان العرب يعترفون بالأشهر الأربعة الحرم، ولكنهم كانوا يُغيّرون في مواعيدها، فكانت الجماعة منهم تقاتل الأخرى، فإذا ما أحسوا بقرب انتصارهم وجاءت الأشهر الحرم قالوا: نستبدل شهرا بشهر، أي نقاتل في الشهر الحرام ثم نأخذ شهرا آخر نمتنع عن القتال فيه، وحسبوا أنهم ما دموا قد حافظوا على العدد يكونون بذلك قد أدوا مطلوبات الله، ولكنهم نسوا أنهم لم يحافظوا على المعدود، ونسوا أن الدين مجموعة من القيم لابد أن نؤمن بها ونطبقها. والإيمان-كما نعلم- هو انقياد وتسليم لله سبحانه وتعالى، فإذا أمر الله بأمر من الأمور فلا اختيار لنا فيه؛ لأنه سبحاه وتعالى يرى بحكمته وعلمه هدفا وأهدافا أو حكمة، وهنا يقف الاختيار البشري، بمعنى أنه لا أحد يملك تعديل مرادات الله بأي شكل من الأشكال؛ لأننا في حياتنا اليومية حين نرى واحدا من البشر قد اشتهر بحكمته وعلمه في أمر من الأمور أكثر منا، نقول له: وكَّلْناكَ في هذا الأمر، وسنسير وراءك فيما تقرره. ومعنى هذا أننا سنسلم اختيارنا لاختيارات هذا الحكيم. إننا لا نعطي أحدا هذه الصلاحية إلا إذا تأكدنا بالتجربة أنه عليم بهذه المسألة، وأنه حكيم في تصرفه. وإن سألك أحد من الناس: لماذا تتصرف في ضوء ما يقوله لك فلان؟ فتقول: إنه حكيم وخبير في هذه المسائل، وهذا دليل منك على أنك واثق في علمه، وواثق في صدقه، وواثق في حكمته. والمثال الحي المتجدد أمامنا هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عندما قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن أنه نبي الله، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قد قال فقد صدق. قال أبو بكر رضي الله عنه هذا القول؛ لأنه عرف ولمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط في كل الأحداث السابقة، فإذا كان عليه الصلاة والسلام لا يكذب على أهل الأرض أيكذب على السماء؟ طبعا هذا غير معقول. وأنت لا تسلم زمام أمرك للمساوي لك إلا إذا كانت هناك مقدمات أثبتت أنه أعلى منك في ناحية معينة، صحيح أنه مساويك في الفردية وفي الذاتية، ولكنه أعلى منك علما في المجال الذي يتفوق فيه. فما يقوله تنفذه بلا نقاش لأنك وثقت في علمه. وأنت إذا مرضت –لا قدر الله- وكان هناك طبيب تثق في علمه وقال لك: خذ هذا الدواء؛ أتناقشه أو تجادله؟ طبعا لا، بل تفعل ما يأمرك به بلا نقاش. فإذا سألك أحدهم: لماذا تتناول هذا الدواء؟ تقول: لقد كتبه لي الطبيب الذي أثق فيه. وهذا يكفي كحيثية للتنفيذ. فإذا جئنا إلى الله سبحانه الذي أعدَّ لنا هذا الكون وأنزل إلينا منهجا وطالبنا أن نُسلمَ له وجوهنا، وأن نفعل ما يأمرنا به في كل أمور الحياة، فإن احتجنا إلى حكمة فهو الحكيم وحده، وإن احتجنا إلى قدرة فهو القادر دائما، وإذا احتجنا إلى قهر فهو القاهر فوق عباده، وإن احتجنا إلى رزق فهو الرازق، وعنده كنوز السماوات والأرض. أيوجد من هو أحق من الحق سبحانه لنُسلمَ زمامنا له ونفعل ما يأمرنا به؟ طبعا لا يوجد، وإذا سألنا أحد: لماذا نتبع هذا المنهج؟ نقول: إنه سبحانه قد أمرنا باتباعه. وهذا هو الإسلام الحقيقي؛ أن تسلم اختيارك في الحياة لمرادات الخالق الأعلى، فالدين معناه الالتزام والانقياد لله، ولذلك يقول سبحانه: {ذلك الدين القيّم} أي قيّم على كل أمور حياتنا، والدليل على ذلك قائم فيما تحدثنا عنه، فمادام الله سبحانه وتعالى قد قال، فنحن نفعل. إذن: فالدين قيّم علينا. والدين قيّم أيضا على غيره من الرسالات السماوية، أي مُهيمن عليها، وفي هذا يقول الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ... (48)} (المائدة): حددت الآية-التي نحن بصدد خواطرنا عنها- أشهرا حُرما يحرم فيها القتال وحذرت من الظلم بالحرب أو غيرها، وقد يقال: إن معنى هذا أن تضعف حمية الحرب عند من يريد الحرب ضد الباطل، فنرى الباطل أمامنا خلال الأشهر الحرم ولا نحارب. نقول: إن هذا غير صحيح، ففترة السلام هذه تكون شَحْذا لِهِمَمَ المقاتلين ضد الكفر والظلم، لأنك قد ترى الباطل أمامك لكنك لا تمتثل لأمر الله في وقف القتال، فإن ذلك يزيد الانفعال الذي يحدثه الباطل في تحديه للنفس المؤمنة، فإذا انتهت الأشهر الحرم كنت أكثر حماسة. تماما كالإنسان الحليم الذي يرى إنسانا يضايقه باستمرار فيصبر عليه شهرا أو اثنين وثلاثة، فإذا نفذ صبره كان غضبه قويا شديدا، وقتاله شرسا، ولذلك قيل: "اتقوا غضب الحليم"؛ لأن غضبه أقوى من غضب أي إنسان آخر. وكذلك يكون حلْم المؤمن على الكافر في الأشهر الحرم، شحذا لهمته إذا استمر الباطل في التحدي، وفي هذا تحذير للمسلمين من أن تضعف في نفوسهم فكرة القتال وعزيمتهم فيه، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة} وكلمة {كافة} هنا سبقها أمران: {قاتلوا} فإلى أي طرف ترجع {كافة} هنا؟ هل تُرجعها إلى المؤمنين المقاتلين، أم إلى المقاتلين من الكفار؟ وهذا إثراء في الأداء القرآني في إيجاد اللفظ الذي يمكن أن نضعه هنا ونضعه هناك فيعطيك المعنى. ولكن هل يريدنا الحق أن نقاتل المشركين حالة كوننا-نحن المؤمنين- كافة؟ أم نقاتل المشركين حالة كونهم كافة؟ إن "كافة" كما نعرف لفظ لا يُجمع ولا يُثنّى، فالرجل كافة، والرجلان كافة، والقوم كافة، وهي مأخوذة من الكف. وتطلق أيضا على حافة الشيء لأنها منعت امتداده إلى حيز غيره. وفي لغة من يقومون بحياكة الملابس يقال: "كافة الثوب" حين يكون الثوب قد تنسل، فيقوم الحائك بمنع التنسيل بتكفيف الثوب. والحق سبحاه هنا يقول: {وقاتلوا المشركين كافّة} أي: يأيها المؤمنون كونوا جميعا في قتال المشركين. وهي تصلح للفرد، أي: للمقاتل الواحد، وللمقاتليْن، ولجماعة المقاتلين. وقوله: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} ذلك أن الباطل يتجمع مع الباطل دائما، والمثال الواضح في السيرة أن يهود المدينة تحالفوا مع الكفار ضد المسلمين، فكما أن الباطل يجتمع مع بعضه البعض فاجمعوا أننتم أيها المؤمنون وأصحاب الحق قوتكم لتواجهوا باطل الكفر والشرك. ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: "أعجب كل العجب من تضافر الناس على باطلهم وفشلكم عن حقكم" ويتعجب الإمام علي رضي الله عنه من أهل الحق يفرطون في حقهم رغم اجتماع أهل الباطل على باطلهم. ويعطينا القرآن من تجمُّع أهل الباطل في قول اليهود لكفار مكة: {هؤلاء أهدى مِن الذين آمنوا سبيلا... (51)} (النساء) أي أن اليهود قالوا: إن عبدة الأصنام أهدى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، قالوا ذلك رغم أن كتبهم قد ذكرت لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي بالدين الخاتم حتى إنهم كانوا يقولون لأهل المدينة من المشركين: لقد أطل الزمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. كذلك في كتب أهل الكتاب نبأ رسول الله وأوصافه وزمانه. وعندما تحقق ما في كتبهم كفروا به واجتمعوا مع أهل الباطل. وهنا يوضح لنا الحق: مادام الباطل قد اجتمع عليكم وأنتم على الحق فلابد أن تجتمعوا على دحض الباطل وإزهاقه؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يُقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين}. إذن: فالله يأمر المؤمنين بأن يجتمعوا على قتال الكافرين، ولأن الله مع الذين آمنوا؛ لذلك فهو ينصر المؤمنين، وإذا وُجد الله مع قوم ولم يوجد مع آخرين، فأيُّ الكفتين أرجح؟ لابد من رجحان كفة المؤمنين. {واعلموا أن الله مع المتقين} والعلم-كما قلنا- حكم يقين عليه دليل، أي لا يحتاج إلى دليل؛ لأن العلم هو أن تأتي بقضية غير معلومة، ثم تقيم الدليل عليها لتصبح يقينا. وإذا قال الله سبحانه وتعالى: {واعلموا} فالعلم هنا ينتقل من علم يقين إلى عين يقين. والعلم -كما نعرف- قضية معلومة في النفس يؤيدها الواقع وتستطيع أن تقيم الدليل عليها. فإذا علمت بشيء أخبرت به، ويقينك بما علمت يكون على قدر ثقتك بمن أخبرك. والمثال: حين قيل لأبي بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه أُسريَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعُرجَ به إلى السماء السابعة، هنا قال الصدّيق: إن كان قد قال فقد صدق، وكانت هذه هي ثقته في القائل، وهو يستمد منها الثقة فيما قال وروى. وحينما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة رضي الله عنها بخبر الوحي وأبدى خوفه مما يرى، قالت: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، وهي بذلك قد أخذت من المقدمات حيثيات الحكم وكانت أول مجتهدة في الإسلام عملت بالقياس. فقد قاست الحاضر بالماضي. وعندما يقول الحق: {واعلموا أن الله مع المتقين} فيكفينا أن يكون هذا كلام الله سبحانه ليكون يقينا في نفوسنا، وهناك علم يقين يأتيك ممن تثق في علمه وصدقه، وأنت إ رأيت الشيء الذي أخبرت به وشاهدته يصبح عين يقين، فإذا اختبرته وعِشْتَ فيه يصبح حقَّ يقين. وحين قال الحق: {واعلموا أن الله مع المتقين} وجدنا بعض المؤمنين أخذوها على أنها علم يقين، أو حق يقين؛ لأنهم شاهدوا ذلك في المعارك حين كانوا قلة، فمن أخذ كلام الله دون مناقشة عقلية -لأن الله هو القائل- أخذه علم يقين. والذي أخذ الكلام على أنه يصل إلى درجة المشاهدة أخذه على أنه حق يقين، والذي أخذ الكلام كأنه عايشه فهذا عين يقين، ولكي نعرف هذه المنازل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) (التكاثر). وهذه أولى الدرجات: علم يقين؛ لأنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} (التكاثر) أي: أنكم في الآخرة سوف ترونها بأعينكم بعد أن كنتم مؤمنين بها كعلم يقين، أما الآن فقد أصبحت عين يقن أي مشاهدة بالعين. وفي هذه السورة أعطانا الحق مرحلتين من مراحل اليقين هما: علم اليقين وعين اليقين، ففي الآخرة سوف يُضرب الصراط على جهنم، ويرى الناس – كل الناس، المؤمن منهم والكافر – نار جهنم، وهم يمرون فوق الصراط، ويرونها متأججة، وحين يمر المؤمن فوق الصراط ويرى جهنم وهولها، يعرف كيف نجاه الإيمان من هذا العذاب الرهيب فيفرح؛ فإذا دخل الجنة ورأى نعيمها يزداد فرحه؛ فله فرجة بأنه نجا من العذاب، وفرحة بالنعم وبالمنعم، ويقول المؤمن: الحمد لله الذي أنقذني من النار. وهذه نعمة كبيرة وفوز عظيم، ولذلك يقول الحق: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ... (185)} (آل عمران) فالنجاة من النار وحدها فضل كبير، ودخول الجنة فضل أكبر، والحق هو القائل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} (مريم) ويَردُ الشيء أي يصل إليه دون أن يدخل فيه، ويقال: ورد الماء أي وصل إلى مكانه دون أن يشرب منه. إذن فكل مننا سوف يرى جهنم، ويعرف المؤمن نعمة الله عليه، لأنه أنجاه منها، ويندم الكافر، لأنه يُعذب فيها. وقد ضربت من قبل مثلا – ولله المثل الأعلى – بالقراءة عن مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعرف القارئ أنها مبنية على عدة جزر، وفيها ناطحات سحاب وأنها مزدحمة بالسكان، وهذه القراءة هي علم يقين، فإذا ركب الإنسان الطائرة ورآها من الجو يكون ذلك عين يقين، فإذا ما نزل وعاش على أرضها بين ناطحاتها وعايش ازدحامها بالسكان يكون ذلك حق اليقين. وفي سورة التكاثر جاء الحق سبحانه وتعالى بمرحلتين فقط من مراحل اليقين، وجاء بالمرحلة الثالثة في سورة الواقعة، فقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} (الواقعة): وحقُّ اليقين هو آخر مراحل العلم، والإنسان قد يكابر في حقيقة ما حين يقرؤها، وقد يجادل في حقيقة يشاهدها، ولكنه لا يستطيع أن يكابر في واقع يعيشه، وقد حدث ذلك وحملته لنا سطور الكتب عن سيدنا عمر وقد قال عن أحد المعارك:"وحينما شهرت سيفي لأقصف رأس فلان، وجدت شيئا سبقني إليه وقصف رأسه "أي: هناك من شاهد ذلك بنفسه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثاً مفصلةً حول قتال المشركين، فالآيتان محل البحث تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإِسلام، وهو احترام الأشهر الحُرم.
فتقول الأُولى: (إِنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض).
والتعبير ب «كتاب الله» يمكن أن يكون إِشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية، إلاّ أنّه بملاحظة جملة (يوم خلق السماوات والأرض) يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.
وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.
وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعاً نظاماً طبيعياً، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).
ثمّ تضيف الآية آنفة الذكر معقبّةً: (منها أربعة حرم).
يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد «إِبراهيم الخليل (عليه السلام)»، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلاّ أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحياناً تبعاً لميولهم وأهوائهم، إلاّ أنّ الإِسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السَرد وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وشهر منها منفصل عنها، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.
وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إِنّما يكون نافذ المفعول إِذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم يُنتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدوّ «وقد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة».
ثمّ تضيف الآية مؤكّدة: (ذلك الدين القيّم).
ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إِضافة الى شريعة إِبراهيم الخليل (عليه السلام). ولعلّ التعبير ب (ذلك الدين القيم) إِشارة الى هذه اللّطيفة، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت:
ثمّ تقول الآية: (فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم).
إِلاّ أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلاّ أنّهم يقاتلونكم في صف واحد، «كافة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلابدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.