معاني القرآن للفراء - الفراء  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

وقوله : { مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }

جاء التفسير : في الاثنى عشر . وجاء ( فيهن ) : في الأشهر الحرم ؛ وهو أشبه بالصواب - والله أعلم - ليتبين بالنهي فيها عِظَمُ حُرْمتها ؛ كما قال : { حافِظُوا على الصَّلَوَاتِ } ثم قال : { والصَّلاَةِ الوُسْطَى } فعظِّمت ، ولم يرخص في غيرها بترك المحافظة . ويدلّك على أنه للأربعة - والله أعلم - قوله : ( فيهن ) ولم يقل ( فيها ) . وكذلك كلام العرب لِما بين الثلاثة إلى العشرة تقول : لثلاث ليال خلون ، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة ، فإذا جُزْت العشرة قالوا : خلت ، ومضت . ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة ( هنّ ) و ( هؤلاء ) فإذا جزت العشرة قالوا ( هي ، وهذه ) إرادة أن تعرف سِمة القليل من الكثير . ويجوز في كل واحد ما جاز في صاحبه ؛ أنشدني أبو القمقام الفقعسىّ :

أصبحن في قَرْحٍ وفي داراتها *** سبع ليال غير معلوفاتها

ولم يقل : معلوفاتهن وهي سبع ، وكل ذلك صواب ، إلا أن المُؤْثَر ما فسَّرت لك . ومثله : { وقال نِسْوَةٌ في الْمَدِينَة } فذكَّر الفعل لقلَّة النسوة ووقوع ( هؤلاء ) عليهن كما يقع على الرجال . ومنه قوله : { فإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } ولم يقل : انسلخت ، وكلٌّ صواب . وقال الله تبارك وتعالى : { إِنَّ السّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ } لقلّتهن ولم يقل ( تلك ) ولو قيلت كان صوابا .

وقوله : { الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً }

يقول : جميعا . والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقولَ : كافّين ، أو كافّات للنسوة ، ولكنها ( كافّة ) بالهاء والتوحيد في كل جهة ؛ لأنها وإن كانت على لفظ ( فاعلة ) فإنها في مذهب مصدر ؛ مثل الخاصَّة ، والعاقبة ، والعافية . ولذلك لم تُدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر . وهي في مذهب قولك : قاموا معا وقاموا جميعا ؛ ألا ترى أن الألف واللام قد رُفِضت في قولك : قاموا معا ، وقاموا جميعا ، كما رفضوها في أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت في ذلك المعنى . فإن قلت : فإن العرب قد تدخل الألف واللام في الجميع ، فينبغي لها أن تدخل في كافة وما أشبهها ، قلت : لأن الجميع على مذهبين ، أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، فهو الذي شبّه عليك . فإذا أردت الجميع الذي في معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه الألف واللام ؛ مثل قوله : { وإِنا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ } ، وقوله : { سَيُهزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّون الدُّبُرَ } وأما الذي في معنى معا وكافّة فقولك للرجلين : قاما جميعا ، وللقوم : قاموا جميعا ، وللنسوة : قمن جميعا ، فهذا في معنى كلّ وأجمعين ، فلا تدخِلْه ألفا ولاما كما لم تدخل في أجمعين .