الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } يعني عدد شهور السنة { عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ } قراءة العامة بفتح العين والشين ، وقرأ أبو جعفر بجزم الشين ، وقرأ طلحة بن سليمان بسكون الشين ، شهراً نصب على التمييز .

وهي المحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .

وأما المحرم فسمي بذلك لتحريم القتال فيه ، وسمي صفر لأن مكة تصفر من الناس فيه أي تخلو منهم ، وقيل : وقع فيه وباء فاصفرّت وجوههم ، وقال أبو عبيدة : سمّي صفر لأنه صفرت فيه وطابهم من اللبن ، وشهرا الربيع سمّيا بذلك لجمود الماء فيهما ، وسمّي رجب لأنهم كانوا يرجبونه أي يعظمونه ، رجبته ورجّبته بالتخفيف والتشديد إذا عظمته ، قال الكميت :

ولا غيرهم أبغي لنفسي جنّة *** ولا غيرهم ممن أُجلّ وأرجب

وقيل : سمي بذلك لترك القتال فيه من قول العرب : رجل أرجب إذ كان أقطع لا يمكنه العمل ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " إن في الجنة نهراً يقال له رجب ماؤه أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل ، من صام يوماً من رجب شرب منه " ، وقال عمر : سمّي شعبان لتشعب القبائل فيه .

وروى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سُمّي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان " .

وقد مضى القول في رمضان ، وسمّي شوال لشولان النوق اللقاح بأذنابها فيه .

قال أبو زيد البلخي : سمّي بذلك لأن القبائل تشول فيه أي تبرح عن أماكنها ، وسمّي ذو القعدة لقعودهم عن القتال ، وذو الحجة لقضاء حجهم فيه ، والله أعلم .

قال بعض البلغاء : إذا رأت العرب السادات تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا : محرم ، وإذا ضعفت أركانهم ومرضت أبدانهم ، وأصفرت ألوانهم قالوا : صفر ، وإذا ظهرت الرياحين وزهرت البساتين قالوا : ربيعان ، وإذا قل الثمار وجمد الماء قالوا : جماديان ، فإذا هاجت البحار وحمت الأنهار وترجبت الأشجار قالوا : رجب ، وإذا بانت الفضائل وتشعبت القبائل قالوا : شعبان ، وإذا حمي الفضا ، ونفي جمر الغضاء قالوا : رمضان ، وإذا انكشف السحاب ، وكثرت الذباب وشالت الناقة إلا ذبحوها قالوا : شوال ، وإذا قعد التجار عن الأسفار قالوا : ذو القعدة ، وإذا قصدوا الحج من كل فج ، وأظهروا النج والعج قالوا : ذو الحجة .

{ فِي كِتَابِ اللَّهِ } يعني اللوح المحفوظ وقيل في قضائه الذي قضى { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ } من الشهور { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } كانت العرب تعظمها وتحرم القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ، وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ومحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد .

{ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } الحساب المستقيم { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي في الأشهر الحرم بالعمل بمعصية الله عز وجل وترك طاعته ، وقال ابن عباس : استحلال القتال والغارة فيهن ، وقال محمد بن إسحاق عن يسار : لا تجعلوا حلالها حراماً ولا حرامها حلالا كما فعل أهل الشرك ، وقال قتادة : إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم ، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهنّ ، وإن كان الظلم على كل حال عظيم ، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا .

{ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } جميعاً عامّاً مؤتلفين غير مخلّفين { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } نصب على الحال { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .

واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم : إنه منسوخ ، وقال قتادة وعطاء الخرساني : كان القتال كثيراً في الأشهر الحرم ثم نسخ وأُحل القتال فيه بقوله { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } يقول : فيهن وفي غيرهنّ .

قال الزهري : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله سبحانه من تحريم ذلك حتى نزلت براءة فأحل قتال المشركين " ، وقال أبو إسحاق : سألت سفيان الثوري عن القتال في الشهر الحرام فقال : هذا منسوخ ، وقد مضى ، ولا بأس بالقتال فيه وفي غيره ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفاً بالطائف في شوال وبعض ذي القعدة فيدل على أنه منسوخ ، وقال آخرون : إنه غير منسوخ ، وقال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح مايحلّ للناس أن يغزوا في المحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يُقاتَلوا فيها وما نَسخت ، وقال ابن حيان نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة .