غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

29

ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال { إن عدّة الشهور } الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم . واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] والسنة القمرية عبارة عن اثني عشر شهراً قمرياً بدليل قوله تعالى { إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلق قوله { في كتاب الله } بقوله { عدّة الشهور } للفصل بالأجنبي وهو الخبر أعني اثنا عشر . فقوله { في كتاب الله } و { يوم خلق } الثاني بدل من الأول وهو من عند . والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض . وفائدة الإبدالات تقدير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم . ويجوز أن يكون { في كتاب الله } صفة اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب من الكتب لأن { يوم } متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان . لا يقال : غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدراً بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا . إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله يوم خلق . قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ . وقيل : القرآن . { منها أربعة حرم } ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو وجب { ذلك الدين القيم } يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما ، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه { فلا تظلموا فيهن } أي في الأشهر الأربعة { أنفسكم } بأن تجعلوا حرامها حلالاً . عن عطاء قال : تالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت . وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول . وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم { براءة من الله ورسوله } وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله

{ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق } [ البقرة : 197 ] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة ، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتاً مخصوصة . وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعاً على الظلم والفساد ، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك . ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الألفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي . ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة . وقيل : الضمير في قوله { فيهن } عائد إلى { اثنا عشر } والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره ، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء . قال الفراء : الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف ، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم ، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميراً الجماعة ، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة . قال حسان :

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ويقال : لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت . ثم قال عز من قائل { وقاتلوا المشركين } وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة . ومعنى { كافة } جميعاً لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضاً . ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية . وقال الزجاج : نصبه على الحال . ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك : قاموا معاً وقاموا جميعاً . وفي وجه التشبيه في قوله { كما يقاتلونكم كافة } قولان : فعن ابن عباس : قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم . وقيل : قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم . فعلى الأول يكون { كافة } حالاً من المفعول وعلى الثاني يكون حالاً من الفاعل وفي قوله { واعلموا أن الله مع المتقين } حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة .

/خ37