الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا }[ 36 ] ، الآية .

قوله : { كافة }[ 36 ] .

مصدر{[28617]} مثل : " عافاه الله عافية " ، ومثله : " عامة " و " خاصة " {[28618]} ، ف : { كافة } ك : " العافية " و " العاقبة " ، ولا تدخل فيهما{[28619]} " الألف واللام " ، كما لم تدخلا في " معا " و " جميعا " {[28620]}-{[28621]} .

ومعنى الآية : إن الله قدر أن السنة{[28622]} اثنا عشر شهرا في كتابه الذي سبق فيه ما هو [ كائن ]{[28623]} إلى يوم القيامة ، منها أربعة حرم ، وهن : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وكان القتال فيها حراما حتى نزل في " براءة " قتال{[28624]} المشركين{[28625]} .

و{ ذلك الدين القيم }[ 36 ] .

أي : المستقيم ، إنها اثنا عشر شهرا{[28626]} .

وقيل { الدين } هنا : الحساب ، أي : الحساب المستقيم{[28627]} .

وقال ابن عباس معناه : ذلك القضاء القيم{[28628]} .

وقوله : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم }[ 36 ] .

أي : لا تستحلوا ما حرم الله عز وجل{[28629]} .

قال ابن عباس : { فيهن } يعني كلهن .

قال ابن عباس : { فيهن } ، يعني : كلهن{[28630]} .

وهو قول مقاتل بن حيان{[28631]} ، والضحاك ، جعلا الضمير يعود على : { اثنا عشر شهرا }{[28632]} .

وليس قوله : { فلا{[28633]} تظلموا فيهن أنفسكم } إذا جعلناه الأربعة الأشهر بمبيح لنا أن نظلم أنفسنا في غير الأربعة الأشهر ، ولو كان ذلك لكان قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق }{[28634]} دليلا على إباحة قتلهم إذا لم يخشوا إملاقا ، ولكان قوله : { والفلك[ التي ] تجري في البحر بما ينفع الناس }{[28635]} دليلا على أنها لا تجري بما يضر الناس ، وهي تجري بما ينفع وما يضر .

وأصل هذا : أن كل نهي إنما يوجب الامتناع عما نهى عنه دون غيره ، وكل أمر فهو ناف لأضداده فإذا قلت : " قم " ، فقد أمرته بترك أضداد القيام من القعود والاضطجاع ، وإذا قلت : " لا تقم " ، فلم تنهه{[28636]} عن الاضطجاع ولا عن الاتكاء ولا عن شيء من أضداده ، فاعلمه .

فالنهي عن الشيء لا يكون نهيا عن أضداد ذلك الشيء ، والأمر بالشيء أمر عن أضداد/ ذلك الشيء على ما بينا ، فافهمه{[28637]} .

وقال قتادة ، وغيره : { فيهن } في الأربعة الحرم ، جعل الذنب فيهن أعظم منه في غيرهن{[28638]} .

وأكثر ما تستعمل العرب " الهاء " و " النون " فيما دون العشرة{[28639]} ، و " الهاء " و " الألف " في ما جاوز{[28640]} العشرة{[28641]} .

فالظلم{[28642]} في جميعها لا يجوز ، ولكن هو فيها أعظم وزرا لشرفها ، فلذلك خصها بالذكر تعالى وهذا كقوله : { والصلاة{[28643]} الوسطى } أفردها{[28644]} بعد أن ذكرها مجملة لشرفها ، وليس إفرادها بالمحافظة يدل على ترك المحافظة فيما سواها ، فكذا هذا{[28645]} .

وقال ابن إسحاق المعنى : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما ، تعظيما لها ، فإنما نهوا عن " النسئ " الذي المشركون يصنعونه{[28646]} .

{ وقاتلوا المشركين كافة }[ 36 ] .

أي : جميعا{[28647]} .

ومعنى { كافة } ، أي : يكف بعضهم{[28648]}بعضا عن التخلف{[28649]} كما يفعلون .

{ واعلموا أن الله مع المتقين }[ 36 ] .

أي : مع من اتقى أمره ونهيه وأطاعه{[28650]} .

ومن جعل { فيهن } يعود على : " الاثنا عشر شهرا " وقف على : { القيم } ، ومن جعله يعود على : " الأربعة الحرم " وقف على : { أنفسكم } ، وهو قول نافع والأخفش{[28651]} .

والأول قول أبي حاتم ويعقوب{[28652]} .


[28617]:في مشكل إعراب القرآن 1/328، وإعراب القرآن للنحاس 2/213، مصدر في موضع الحال.
[28618]:في مشكل إعراب القرآن 1/328، ورأيتهم عامة وخاصة.
[28619]:في "ر"، مطموسة بفعل الرطوبة والأرضة، وفي جامع البيان الذي نقل عنه مكي: فيها.
[28620]:في "ر": جمعا، وهو تحريف.
[28621]:جامع البيان 14/242، بتصرف. قال الفراء في معاني القرآن 1/436: "والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقول: كافين، أو كافات للنسوة، ولكنها "كافة" بالهاء والتوحيد في كل جهة؛ لأنها وإن كانت على لفظ "فاعلة" فإنها في مذهب مصدر، مثل: الخاصة، والعاقبة، والعافية. ولذلك لم تدخل فيها العرب الألف واللام؛ لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهي في مذهب قولك: قاموا معا، وقاموا جميعا، ألا ترى أن الألف واللام قد رفضت في قولك: قاموا معا، وقاموا جميعا، كما رفضوها في أجمعين، وأكتعين، وكلهم إذا كانت في ذلك المعنى". انظر: بقية قيله فإنه نفيس، وزد عليه البحر المحيط 5/41.
[28622]:في الأصل: قدر أن تعالى اثنا عشر، وهو سهو سيء من ناسخ.
[28623]:زيادة من "ر".
[28624]:في الأصل: قتل.
[28625]:لمزيد من التفصيل انظر جامع البيان 14/234-237.
[28626]:وهو قول السدي، وابن زيد، كما في جامع البيان 14/237.
[28627]:وهو قول ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن 185، بلفظ: "أي: الحساب الصحيح والعدد المستوي". وهو منسوب في تفسير الماوردي 2/360، وزاد المسير 3/433.
[28628]:تفسير ابن أبي حاتم 6/1792، والدر المنثور 4/184.
[28629]:جامع البيان 14/237، بتصرف.
[28630]:جامع البيان 14/238، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1792، وزاد المسير 3/433 وتفسير ابن كثير 2/355، والدر المنثور 4/187.
[28631]:في "ر": حبان، بالباء الموحدة، وهو تصحيف.
[28632]:القطع والإئتناف 361، 362، بتصرف.
[28633]:في المخطوطتين: ولا، وأثبت ما في نص التلاوة.
[28634]:الإسراء: 31، وتمامها: {نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا}
[28635]:البقرة: 163، والآية بتمامها: {إن في خلق السموات واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون}.
[28636]:في الأصل: تنمهه، وهو تحريف لا معنى له. وفي "ر": تنتبه، وهو تحريف أيضا. وأثبت ما استصوبته.
[28637]:بشأن الفقرات الثلاث، لم أهتد إلى مصادر مكي.
[28638]:جامع البيان 14/238، وهو الاختيار فيه، وتفسير ابن كثير 2/355، والدر المنثور 4/187، كلها بأطول من هذا.
[28639]:في الأصل: العشر.
[28640]:في "ر": جاز، والفقرة في "ر"، فيها اضطراب.
[28641]:قال الفراء في معاني القرآن 1/435: "ويدلك على أنه للأربعة، والله أعلم، قوله: {فيهن}، ولم يقل: "فيها"، وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة، تقول: لثلاث ليال خلون وثلاثة أيام خلون، إلى العشرة، فإذا جزت العشرة قالوا: خلت، ومضت..." تأمل بقية كلامه، فإنه مفيد لك في فهم كلام العرب، وبالتالي فهم الخطاب القرآني. وانظر جامع البيان 14/240، فالاختيار فيه قول قتادة، وهو قول الأكثرين كما ذكر الرازي في تفسيره 8/55، معضد بما ذكره الفراء فوقه، دون ذكره. وفي زاد المسير 3/433: "قال ابن الأنباري: العرب تعيد "الهاء" و"النون" على القليل من العدد، و"الهاء" و"الألف" على الكثير منه، والقلة: ما بين الثلاثة إلى العشرة والكثرة: ما جاوز العشرة. يقولون وجهت إليك أكبشا فاذبحهن، وكباشا فاذبحها". ولمزيد بيان في شأن عود الضمير من {فيهن}، انظر: البحر المحيط 5/51 والدر المصون 3/462.
[28642]:بين "العشرة" و"الظلم" بياض قدر كلمتين.
[28643]:البقرة: آية 236، والآية وتمامها: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}
[28644]:في الأصل: فردها.
[28645]:انظر: معاني القرآن للفراء 1/435، وجامع البيان 14/241، وزاد المسير 3/434.
[28646]:جامع البيان 14/239، وتفسير البغوي 4/45، وتفسير ابن كثير 2/355، مع زيادة واختلاف يسير في لفظه.
[28647]:هو تفسير ابن عباس، وقتادة في جامع البيان 14/242.
[28648]:في الأصل: بعضها.
[28649]:المحرر الوجيز 3/31.
[28650]:جامع البيان 14/242، باختصار.
[28651]:القطع والإئتناف 361.
[28652]:المصدر نفسه، بتصرف، انظر: المكتفى 292، والمقصد 164، ومنار الهدى 164.