اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } الآية .

" العِدَّة " مصدر بمعنى " العَدَد " . و " عِندَ اللهِ " منصوبٌ به ، أي : في حُكْمه . و " اثْنَا عشرَ " خبرُ " إنَّ " ، وقرأ{[17774]} ميسرة عن حفص ، وهي قراءةُ أبي جعفر " اثْنَا عَشْرَ " بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها ، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما ، كقولهم : " التقَتْ حَلْقتَا البطانِ " بإثباتِ الألف من " حَلْقتَا " . وقرأ طلحة بسكون الشين{[17775]} كأنه حمل " عشر " في المذكر على " عشرة " في المؤنث ، و " شَهْراً " نصب على التمييز ، وهو مؤكِّد ؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو كقولك : عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً . والجمعُ متغاير في قوله " عِدَّة الشُّهورِ " وفي قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة ، وذاك جمعُ قلة .

قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يكون صفةً ل " اثْنَا عَشَرَ " ، والتقديرُ : اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله . ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنَّه متعلقٌ بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات } وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السماوات والأرض .

ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحُّ من جهة المعنى ؟ ولا يجوزُ أن يكون " فِي كتابِ اللهِ " متعلقاً ب " عِدَّة " لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا ، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ .

قوله : " يَوْمَ خَلَقَ " يجوز فيه أن يتعلَّق ب " كِتَاب " على أنَّه يُرادُ به المصدر ، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو " في كِتابِ الله " ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً ، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب " عِدَّة " وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق .

فصل

هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى ؛ لأنَّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء ، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم . فإنَّ السَّنة عند العربِ : عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية ، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين ، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وعند سائر الطوائف : السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب .

وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية ، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه ؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية . والمرادُ بالكتابِ : حكمه وإيجابه . قال ابن عباس " إنه اللَّوحُ المحفوظ " {[17776]} وقيل : القرآن .

فصل

قال القرطبيُّ{[17777]} : قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } وهي جمع شهر . فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً ، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً . قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر ، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة " فُعول " في جمع " فَعْل " .

قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون صفةً ل " اثْنَا عَشَرَ " .

الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار .

الثالث : أن تكون مستأنفة . والضمير في " منها " عائدٌ على اثنا عشر شهراً ، لأنه أقربُ مذكورٍ ، على " الشُّهور " والضمير في " فيهنَّ " عائدٌ على " الاثني عشر " أيضاً . وقال الفرَّاءُ{[17778]} ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ ، لوجهين :

أحدهما : أنه أقرب مذكور . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويجوزُ العكس .

فصل

أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي : ذُو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وواحد فرد ، وهو : رجبٌ ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً ، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً ، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له .

فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السَّببُ في هذا التَّمييز ؟

فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع ، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة ، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة ، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها ، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي ، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة ، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة .

وفيه فائدة أخرى وهي : أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد ، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم ، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد .

أحدها : أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح .

وثانيها : أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً .

وثالثها : أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات ، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم .

قوله { ذلك الدين القيم } أي : الحساب المستقيم ، يقال : " الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ " {[17779]} أي : حاسبها ، وقال الحسنُ : " ذلكَ الدِّينُ القَيّم " الذي لا يبدلُ ولا يُغير{[17780]} ، " القَيِّم " - ههنا - بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه .

قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } بفعل المعصية ، وترك الطَّاعاتِ ، قال ابنُ عبَّاسٍ : " المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر " . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله " فِيهِنَّ " عائدٌ على الأربعة الحرم ، وقد تقدَّم . وقيل : المرادُ ب " الظلم " النَّسيء الذي كانُوا يعملونه ، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر ، وقيل : المرادُ ب " الظُّلمِ " ترك المقاتلة في هذه الأشهر .

قوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } نصب " كَافَّةً " على الحالِ ، إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدَّم أن " كَافَّةً " لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنَّها لا تدخلها " أل " ؛ لأنها بمعنى قولك : قامُوا جميعاً ، وقامُوا معاً ، وأنَّها لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمع ، وكذلك " كافة " الثانية ، ومعنى " كافة " أي : جميعاً .

فصل

معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك ؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء .

وقال ابنُ عبَّاسٍ : " قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم " {[17781]} { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات .

واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، فقيل : كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } أي : فيهن ، وفي غيرهن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخراساني ، والزهريُّ وسفيان الثوري ، وقالوا : لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفاً بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة{[17782]} . وقال آخرون : غير منسوخ . قال ابن جريج " حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت " {[17783]} .


[17774]:وهي قراءة ابن القعقاع وهبيرة أيضا. ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/91، المحرر الوجيز 3/30، البحر المحيط 5/40-41، الدر المصون 3/461.
[17775]:ينظر السابق.
[17776]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/289).
[17777]:ينظر: تفسير القرطبي 8/85.
[17778]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/435.
[17779]:أخرجه أحمد (4/124) والترمذي (2577) وابن ماجه (4260) والحاكم (1/57-4/325) والطبراني في "الكبير" (7141، 7143) وفي "الصغير" (2/36) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس مرفوعا.
[17780]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/43) عن الحسن.
[17781]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/367-368) عن ابن عباس وذكره الرازي في "تفسيره" (16/42).
[17782]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/290).
[17783]:انظر المصدر السابق.