قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } الآية .
" العِدَّة " مصدر بمعنى " العَدَد " . و " عِندَ اللهِ " منصوبٌ به ، أي : في حُكْمه . و " اثْنَا عشرَ " خبرُ " إنَّ " ، وقرأ{[17774]} ميسرة عن حفص ، وهي قراءةُ أبي جعفر " اثْنَا عَشْرَ " بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها ، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما ، كقولهم : " التقَتْ حَلْقتَا البطانِ " بإثباتِ الألف من " حَلْقتَا " . وقرأ طلحة بسكون الشين{[17775]} كأنه حمل " عشر " في المذكر على " عشرة " في المؤنث ، و " شَهْراً " نصب على التمييز ، وهو مؤكِّد ؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو كقولك : عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً . والجمعُ متغاير في قوله " عِدَّة الشُّهورِ " وفي قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة ، وذاك جمعُ قلة .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يكون صفةً ل " اثْنَا عَشَرَ " ، والتقديرُ : اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله . ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنَّه متعلقٌ بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات } وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السماوات والأرض .
ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحُّ من جهة المعنى ؟ ولا يجوزُ أن يكون " فِي كتابِ اللهِ " متعلقاً ب " عِدَّة " لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا ، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ .
قوله : " يَوْمَ خَلَقَ " يجوز فيه أن يتعلَّق ب " كِتَاب " على أنَّه يُرادُ به المصدر ، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو " في كِتابِ الله " ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً ، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب " عِدَّة " وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق .
هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى ؛ لأنَّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء ، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم . فإنَّ السَّنة عند العربِ : عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية ، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين ، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وعند سائر الطوائف : السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب .
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية ، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه ؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية . والمرادُ بالكتابِ : حكمه وإيجابه . قال ابن عباس " إنه اللَّوحُ المحفوظ " {[17776]} وقيل : القرآن .
قال القرطبيُّ{[17777]} : قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } وهي جمع شهر . فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً ، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً . قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر ، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة " فُعول " في جمع " فَعْل " .
قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون صفةً ل " اثْنَا عَشَرَ " .
الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار .
الثالث : أن تكون مستأنفة . والضمير في " منها " عائدٌ على اثنا عشر شهراً ، لأنه أقربُ مذكورٍ ، على " الشُّهور " والضمير في " فيهنَّ " عائدٌ على " الاثني عشر " أيضاً . وقال الفرَّاءُ{[17778]} ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ ، لوجهين :
أحدهما : أنه أقرب مذكور . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويجوزُ العكس .
أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي : ذُو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وواحد فرد ، وهو : رجبٌ ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً ، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً ، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له .
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السَّببُ في هذا التَّمييز ؟
فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع ، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة ، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة ، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها ، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي ، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة ، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة .
وفيه فائدة أخرى وهي : أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد ، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم ، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد .
أحدها : أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح .
وثانيها : أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً .
وثالثها : أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات ، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم .
قوله { ذلك الدين القيم } أي : الحساب المستقيم ، يقال : " الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ " {[17779]} أي : حاسبها ، وقال الحسنُ : " ذلكَ الدِّينُ القَيّم " الذي لا يبدلُ ولا يُغير{[17780]} ، " القَيِّم " - ههنا - بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه .
قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } بفعل المعصية ، وترك الطَّاعاتِ ، قال ابنُ عبَّاسٍ : " المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر " . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله " فِيهِنَّ " عائدٌ على الأربعة الحرم ، وقد تقدَّم . وقيل : المرادُ ب " الظلم " النَّسيء الذي كانُوا يعملونه ، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر ، وقيل : المرادُ ب " الظُّلمِ " ترك المقاتلة في هذه الأشهر .
قوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } نصب " كَافَّةً " على الحالِ ، إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدَّم أن " كَافَّةً " لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنَّها لا تدخلها " أل " ؛ لأنها بمعنى قولك : قامُوا جميعاً ، وقامُوا معاً ، وأنَّها لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمع ، وكذلك " كافة " الثانية ، ومعنى " كافة " أي : جميعاً .
معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك ؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : " قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم " {[17781]} { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات .
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، فقيل : كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } أي : فيهن ، وفي غيرهن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخراساني ، والزهريُّ وسفيان الثوري ، وقالوا : لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفاً بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة{[17782]} . وقال آخرون : غير منسوخ . قال ابن جريج " حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت " {[17783]} .