فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

{ إن عدة الشهور } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله سبحانه لما حكم في كل وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسىء والكبيسة ، فأخبرنا الله بما هو حكمه فقال أن عدة الشهور أي عدد الشهور المعتد بها للسنة .

{ عند الله } أي حكمه وقضائه ، وحكمته لا بابتداع الناس { اثنا عشر شهرا } هي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة ، فهذه شهور السنة القمرية التي تدور على سير القمر في المنازل ، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم ، وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما ، والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوم وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام ، فبسبب هذا النقصان يقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف .

{ في الكتاب الله } أي فيما أثبته في كتابه أي القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر ، وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلائق وما يأتون وما يذرون ، وقيل المراد بالكتاب الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به ، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف .

{ يوم خلق السماوات والأرض } أي منذ خلق الأجرام والأزمنة وبيان أن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب ، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين وبعضها أكثر وبعضها أقل .

{ منها أربعة حرم } أي محترمة قد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجته فقال : ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) {[893]} والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه من الحل والحرمة وعاد الحج إلى ذي الحجة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسىء الذي أحدثوه في الجاهلية ، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة ، وكانت حجة أبي بكر قبلها في ذي القعدة .

واختلف في ترتيبها فقيل أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي شهور عام ، وقيل أولها رجب فهي من عامين ، وقيل أولها ذو القعدة وهو الصحيح لتواليها ، قاله النووي ، وأورد عليه ابن المنير في تفسيره أنه إنما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ، وكان يؤرخ قبله بعام الفيل ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول فتأمل .

وقال الضحاك : إنما سمين حرما لئلا يكون فيهن حرب .

قلت : وكانت العرب في الجاهلية تعظمها وتحرم فيها القتال حتى أن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يزعجه ، ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيما لأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف ، والسيئات فيها أشد من غيرها فلا تنتهك حرمة هذه الأشهر الحرم .

{ ذلك الدين القيم } أي كون هذه الشهور كذلك ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما وقيل الحساب الصحيح والعدد المستوفى ، وقيل الدين القيم هو الحكم الذي لا يغير ولا يبدل ولا يزول .

{ فلا تظلموا فيهن } أي في هذه الأشهر الحرم { أنفسكم } بإيقاع المعاصي فإنها فيها أعظم وزرا ، وبإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها ، وبه قال أكثر المفسرين ، وقيل أن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها وأن الله نهى عن الظلم فيها والأول أولى .

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية ولقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } ولقوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } الآية .

وذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف ، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه .

وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وآله وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدئ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال ، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع .

{ وقاتلوا المشركين كافة } أي جميعا في كل الشهور لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع ، وهو مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في قاتلوا أو من المفعول وهو المشركين ، قال الزجاج : مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أل ولا يتصرف فيه بغير الحال .

{ كما يقاتلونكم كافة } فيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض { واعلموا أن الله مع المتقين } أي ينصرهم ويثبتهم ومن كان الله معه فهو الغالب وله العاقبة .


[893]:- مسلم، 1679- البخاري، 59.