قوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } ، أي : الزموا مكانكم ، { أنتم وشركاؤكم } ، يعني : الأوثان ، معناه : ثم نقول للذين أشركوا : الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم ، ولا تبرحوا . " فزيلنا " ميزنا وفرقنا " بينهم " ، أي : بين المشركين وشركائهم ، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ، وذلك حين يتبرأ كل معبود من دون اله ممن عبده ، " وقال شركاؤهم " ، يعني : الأصنام ، " ما كنتم إيانا تعبدون " ، بطلبتنا فيقولون : بلى ، كنا نعبدكم .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والحسن وشيبة وغيرهم ، «نحشرهم » بالنون ، وقرأت فرقة : «يحشرهم » بالياء ، والضمير في «يحشرهم » عائد على جميع الناس محسنين ومسيئين ، و { مكانكم } نصب على تقدير لازموا مكانكم وذلك مقترن بحال شدة وخزي ، و { مكانكم } في هذا الموضع من أسماء الأفعال إذ معناه قفوا واسكنوا ، وهذا خبر من الله تعالى عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم ثم ينطق الله الأصنام بالتبري منهم . وقوله : { وشركاؤكم } ، أي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء لله ، فأضافهم إليهم لأن كونهم شركاء إنما هو بزعم هؤلاء وقوله { فزيلنا بينهم } معناه فرقنا في الحجة والذهب وهو من زلت الشيء عن الشيء أزيله ، وهو تضعيف مبالغة لا تعدية ، وكون مصدر زيل تزييلاً ، يدل على أن زيل إنما هو فعل لا فيعل ، لأن مصدره كان يجيء على فيعلة ، وقرأت «فزايلنا » ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفار إذ رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون فيقولون : كنا نعبد هؤلاء فتقول الأصنام : والله ما كنا نسمع أو نعقل : { ما كنتم إيانا تعبدون } فيقولون والله لإياكم كنا نعبد فتقول الآلهة : { كفى بالله شهيداً }{[6095]} الآية .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بن مريم بدليل القول لهم { مكانكم أنتم وشركاؤكم } ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم ، و { أنتم } رفع بالابتداء والخبر موبخون أو مهانون{[6096]} ، ويجوز أن يكون { أنتم } تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه{[6097]} . و { شهيداً } نصب على التمييز ، وقيل على الحال{[6098]} ، «وأنْ » هذه عند سيبويه هي مخففة موجبة حرف ابتداء ولزمتها اللام فرقاً بينها وبين «إن » النافية ، وقال الفراء : «إن » بمعنى ما واللام بمعنى إلا ، و { هنالك } نصب على الظرف ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «تبلوا » بالباء بواحدة بمعنى اختبر ، وقرأ حمزة والكسائي «تتلوا » بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى تتبع أي تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها ، ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي ترفع إليها ، وقرأ يحيى بن وثاب «ودوا » بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله » ، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه ، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بن مريم بدليل القول لهم { مكانكم أنتم وشركاؤكم } ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم ، { وأنتم } رفع بالابتداء والخبر موبخون أو مهانون ، ويجوز أن يكون { أنتم } تأكيداُ للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه .
هذه الجملة معطوفة على جملة { والذين كسبوا السيئات } [ يونس : 27 ] باعتبار كونها معطوفة على جملة { للذين أحسنوا الحسنى } [ يونس : 26 ] فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة بإجمالِ حالةٍ جامعةٍ للفريقين ثم بتفصيل حَالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات ، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر ، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها .
والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعاً ، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال ، ونحشرهم جميعاً . وإنما زيد لفظ { يوم } في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعمالٍ عظيمة أريد التذكير به تهويلاً وموعظة .
وانتصاب { يوم نحشرهم } إما على المفعولية بتقدير : اذْكر ، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله : { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } والتقدير : ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعاً . وضمير { نحشرهم } للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات . وقوله : { جميعاً } حال من الضمير البارز في { نحشرهم } للتنصيص على إرادة عموم الضمير . وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم . ومن نكت ذِكر حشر الجميع هُنا التنبيهُ على أن فظيعَ حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين ، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين .
والحشر : الجمع من أمكنة إلى مكان واحد . وتقدم في قوله تعالى : { وحشرنا عليهم كل شيء } في سورة [ الأنعام : 111 ] .
وقوله : { مكانَكم } منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره : الزموا مكانكم ، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر ، نحو : صَهْ ، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره ، قال عمرو بن الأطنابة :
وأمرُهم بملازمة المكان تثقيف وحَبس . وإذ قد جمع فيه المخاطَبون وشركاؤهم عُلِم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين ، وهي كون أحد الفريقين عابداً والآخرِ معبوداً .
وقوله : { أنتم } تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر ، وهو المسوغ للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان .
والشركاء : الأصنام . وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك ، ولذلك أضيف إلى ضميرهم ، أي أنتم والذين زَعمتم أنهم شركاء . فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم .
وعطف { فزيلْنا } بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث . ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارناً لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .
وزيَّل : مضاعف زال المتعدي . يقال : زَاله عن موضعه يَزِيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين ، فزيَّل فعل للمبالغة في الزيْل مثل فَرَّق مبالغة في فرق . والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوِصَل التي كانت بينهم . والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول .
وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبّادها .
وجملة { وقال شركاؤهم } عطف على جملة : { فزيلنا } فهو في حيز التعقيب ، ويجوز جعلها حالاً .
ويقول الشركاء هذا الكلام بخَلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرأوا منهم ، وذلك مما يزيدهم ندامة . وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم . وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذباً . وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر .
والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مُبيناً لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادةً كاملة وهي العبادة التي يقصِد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالماً وآمراً بتلك العبادة . ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نَفْيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا : { إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين } كما تفسره الآية الأخرى وهي قوله تعالى : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبُدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 40 ، 41 ] .
فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها ، ويجوز أن يكون نُطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولاً فكانت عقولها مستحدثة يومئذٍ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عَبدوها . ويفسر هذا قولهم بعد ذلك { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } .