البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ} (28)

الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من { الذين أحسنوا } { والذين كسبوا السيآت } وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة : نحشرهم بالنون ، وقرأت فرقة بالياء .

وقيل : يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات ، ومنهم عابد غير الله ، ومن لا يعبد شيئاً .

وانتصب يوم على فعل محذوف أي : ذكرهم أو خوفهم ونحوه .

وجميعاً حال ، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون الله كائناً من كان أربعة أقوال .

ومن قال : الأصنام ، قال : ينفخ فيها الروح فينطقها الله بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون ، فيقولون والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة : فكفى بالله شهيداً » الآية .

قال ابن عطية : فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم ، بدليل القول لهم : مكانكم أنتم وشركاؤكم ، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم : إن كنا عن عبادتكم لغافلين .

وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم .

ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال ، وقدر بأثبتوا كما قال :

وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

أي اثبتي .

ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي ، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله : أنتم وشركاؤكم .

والحركة التي في مكانك ودونك ، أهي حركة إعراب ، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال ؟ ألها موضع من الإعراب أم لا ؟ فمن قال : هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً ، ومن قال : لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء .

وعلى الأول عول الزمخشري فقال : مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم .

واختلفوا في أنتم ، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم ، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال : وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله : الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى .

يعني عطفاً على الضمير المستكن ، وتقديره : الزموا ، وأنّ مكانكم قام مقامه ، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا .

ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً ، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك : عليك زيداً لما ناب مناب ، الزم تعدى .

وإليك لما ناب مناب تنح ، لم يتعد .

ولكون مكانك لا يتعدى ، قدره النحويون اثبت ، واثبت لا يتعدى .

قال الحوفي : مكانكم نصب بإضمار فعل أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا .

وقال أبو البقاء : مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر ، أي الزموا انتهى .

وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد ، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه ، كما تعدى الزم .

وقال ابن عطية : أنتم رفع بالابتداء ، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى .

فيكون مكانكم قد تم ، ثم أخبر أنهم كذا ، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه ، ولقوله : فزيلنا بينهم ، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق .

ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه ، والعامل فيه اسم الفعل .

ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره ، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول : كل رجل وضيعته بالرفع ، ولا يجوز فيه النصب .

وقال ابن عطية أيضاً : ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى .

وهذا ليس بجيد ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف ، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز لا تقول : أنت مكانك ، ولا يحفظ من كلامهم .

والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا ، لأن التأكيد ينافي الحذف .

وليس من كلامهم : أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً ، وأنت تريد اضرب أنت زيد ، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً .

يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله .

قال الفراء : تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل .

وقال الواحدي : التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى .

وزيل مضاعف للتكثير ، وهو لمفارقة الحبث من ذوات الياء ، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة .

وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول ، وتبعه أبو البقاء .

وقال أبو البقاء : فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي : زيولنا مثل بيطر وبيقر ، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى .

وليس بجيد ، لأنّ فعل أكثر من فيعل ، ولأنّ مصدره تزييل .

ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله ، فكان يكون زيلة كبيطرة ، لأنّ فيعل ملحق بفعلل ، ولقولهم في قريب من معناه : زايل ، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح ، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم ، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى : { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا ضلوا عنا } وقرأت فرقة : فزايلنا حكاه الفراء .

قال الزمخشري : كقولك صاعر خده ، وصعر ، وكالمته وكلمته انتهى .

يعني أن فاعل بمعنى فعل ، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق .

قال :

وقال العذارى إنما أنت عمنا *** وكان الشباب كالخليط يزايله

وقال آخر :

لعمري لموت لا عقوبة بعده *** لذي البث أشفى من هوى لا يزايله

والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده .

وقيل : فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية ، وفزيلنا .

وقال : هنا ماضيان لفظاً ، والمعنى : فنزيل بينهم ونقول : لأنهما معطوفان على مستقبل ، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم : إياكم كنا نعبد ، والمعنى : إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أنداداً فأطعتموهم ، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى .