اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ} (28)

قوله - تعالى - : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } الآية .

" يَوْمَ " منصوب بفعلٍ مقدَّر ، أي : خوَّفهم ، أو ذكرهم يوم ، والضميرُ عائد على الفريقين أي : الذين أحسنوا ، والذين كسبوا . و " جَمِيعاً " : حال ، ويجُوزُ أن يكون تأكيداً ، عند من عدَّها من ألفاظ التَّأكيد .

قوله : " مَكَانكُمْ " اسمٌ فعل ، ففسَّره النحويُّون ب " اثبُتُوا " فيحمل ضميراً ، ولذلك أكَّد بقوله : " أنْتُم " ، وعطف عليه " شُرَكاؤكُم " ؛ ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

وقَولِي كُلَّمَا جَشَأتْ وجاشَتْ *** مكانكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحي{[18429]}

أي : اثبتي ، ويدلُّ على ذلك جزمُ جوابه ، وهو " تُحْمَدي " ، وفسَّره الزمخشري : ب " الزمُوا " قال : مكانكُم ، أي : الزموا مكانكُم ، لا تبرَحُوا حتى تنظروا ما يفعل بكم " .

قال أبو حيَّان{[18430]} : وتقديره له ب " الزمُوا " ليس بجيِّد ، إذ لو كان كذلك ؛ لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنهُ ، فإنَّ اسمَ الفعل يُعَامل معاملة مُسمَّاة ، ولذلك لمَّا قدَّرُوا " عليك " ، بمعنى : " الزم " عدَّوْه تعديته نحو : عليْكَ زيداً .

قال شهابُ الدِّين{[18431]} " فالزمخشري قد سبق التَّفسير ، والعُذرُ لمن فسَّرهُ بذلك ، أنه قصد تفسير المعنى " ، قال الحوفي : " مكانكُم نُصب بإضمار فعل ، أي : الزمُوا مكانَكُم أو اثبُتوا " . وكذلك فسرهُ أبو البقاء ، فقال : " مَكَانَكُمْ " ظرفٌ مبنيٌّ ؛ لوقوعه موقع الأمر ، أي : " الزمُوا " .

وهذا الذي ذكره من كونه مبنيّاً ، فيه خلاف للنحويين : منهم من ذهب إلى ما ذكر ، ومنهم من ذهب إلى أنَّه حركةُ إعراب ، وهذان الوجهان مبنيان على خلاف في أسماء الأفعال هل لها محلٌّ من الإعراب أو لا ؟ فإن قلنا لها محلٌّ ، كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب ، وإن قلنا لا موضع لها ، كانت حركاتِ بناءٍ ، وأمَّا تقديره : ب " الزَمُوا " ، فقد تقدَّم جوابه . قوله : " أنْتُم " فيه وجهان :

أحدهما : أنَّه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرف ، لقيامه مقام الفاعل ، كما تقدَّم التنبيه عليه .

والثاني : أجازهُ ابن عطيَّة ، وهو أن يكون مبتدأ ، و " شُرَكاؤُكُم " معطوفٌ عليه ، وخبرُهُ محذوفٌ ، قال : " تقديره : أنتم وشركاؤكم مهانون ، أو معذبون " ، وعلى هذا فيوقفُ على قوله : " مَكَانَكُم " ثم يبتدأ بقوله : " أنتُم " ، وهذا لا ينبغي أن يقال ، لأنَّ فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام ، وتبتيراً لنظمه ، من غير داعيةٍ إلى ذلك ؛ ولأنَّ قراءة من قرأ " وشُرَكاءكُمْ " نصباً ، تدل على ضعفه ، إذ لا تكونُ إلاَّ من الوجه الأوَّل ؛ ولقوله : " فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ " ، فهذا يدلُّ على أنَّهم أمروا هُم وشُركاؤهم بالثّبات في مكانٍ واحدٍ ، حتى يحصل التَّنزيل بينهم .

وقال ابن عطية{[18432]} أيضاً : " ويجوزُ أن يكون " أنتُمْ " تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدَّر الذي هو " قفوا " ونحوه " .

قال أبُو حيَّان{[18433]} : وهذا ليس بجيّدٍ ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل ، لجاز تقديمُه على الظَّرفِ ، إذ الظرفُ لم يتحمَّل ضميراً على هذا القول ، فيلزمُ تأخيره عنهُ ، وهو غير جائزٍ ، لا تقول : " أنت مكانك " ولا يحفظ من كلامهم .

والأصحُّ : أنَّه لا يجوز حذفُ المؤكِّد في التَّأكيد المعنويِّ ، فكذا هذا ؛ لأنَّ التأكيد ينافي الحذف ، وليس من كلامهم : " أنت زيداً " لمن رأيته قد شهر سيفاً ، وأنت تُريد " اضرب أنت زيداً " ، إنَّما كلامُ العرب : " زيداً " تُريدُ : اضرب زيداً .

قال شهاب الدِّين : " لَمْ يَعْنِ ابنُ عطيَّة ، أنَّ " أنْتَ " تأكيد لذلك الضمير في " قِفُوا " من حيث إنَّ الفعل مرادٌ غير منُوبٍ عنهُ ؛ بل لأنَّه ناب عنه هذا الظرفُ ، فهو تأكيدٌ له في الأصل ؛ قبل النِّيابة عنه بالظرف ، وإنَّما قال : الذي هو " قفوا " تفسيراً للمعنى المقدر " . وقرأ فرقة{[18434]} " وشُرَكاءكُمْ " نصباً على المعيَّة ، والنَّاصب له اسم الفعل .

قوله : " فَزَيَّلْنَا " ، أي : فرَّقنا وميَّزنا ؛ كقوله - تعالى - : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا } [ الفتح : 25 ] .

واختلفوا في " زيَّل " هل وزنه فعَّل أو فيعل ؟ .

والظاهر الأول ، والتضعيفُ فيه للتَّكثيرِ ، لا للتَّعدية ، لأنَّ ثلاثية مُتعدِّ بنفسه ، حكى الفراء : " زِلْتُ الضَّأن من المعز ، فلم تَزِل " ويقال زلتُ الشَّيء من مكانه أزيلُهُ ، وهو على هذا من ذوات الياء .

والثاني : أنه فَيْعَل كبيطر وبيقر ، وهو من زالَ يزولُ ، والأصل : " زَيْوَلْنَا " ، فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكون ، فأعلت بقلب الواو ياء ، وإدغام الياء فيها ، ك " مَيِّت وسيِّد " في : ميوت وسَيْود ، وعلى هذا فهو من مادة الواو ، وإلى هذا ذهب ابنُ قتيبة ، وتبعه أبو البقاء .

وقال مكِّي{[18435]} : " ولا يجوز أن يكون فعَّلنا من زال يزول ؛ لأنَّه يلزم في الواو فيكون زَوَّلنا " . وهذا صحيحٌ ، وقد تقدَّم تحرير ذلك في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } [ الأنفال : 16 ] .

وردَّ أبو حيَّان كونه " فَيْعَل " ، بأنَّ " فَعَّلَ " أكثر من " فَيْعَل " ؛ ولأنَّ مصدره التَّنزيل ، ولو كان " فَيْعل " ، لكان مصدره " فَيْعلة " كبيطرة ؛ لأن " فَيْعَل " ملحقٌ " بفَعْلَلَ " ، ولقولهم في معناه : " زَايَل " ، ولم يقولوا : " زاول " ، بمعنى : " فارق " ، إنَّما قالوه بمعنى : " حَاول وخالط " ، وحكى الفرَّاء : " فَزايَلْنا " ، وبها قرأت{[18436]} فرقة ، قال الزمخشري : " مثل صَاعَرَ خدَّه ، وصعَّره ، وكالمتُه وكلَّمتُه " . يعني : أنَّ " فاعل " بمعنى : " فعَّل " ، و " زَايلَ " بمعنى : " فَارَقَ " .

قال : [ الطويل ]

وقَالَ العَذَارَى : إنَّما أنْتَ عَمُّنَا *** وكَانَ الشَّبَابُ كالخَليطِ يُزايلُهْ{[18437]}

وقال آخر : [ الطويل ]

لعَمْري لمَوْتٌ لا عُقُوبةَ بعدَهُ *** لِذي البَثِّ أشْفَى من هَوًى لا يُزايلهْ{[18438]}

أي : يفارقه .

وقوله - تعالى - : " فَزيَّلْنا " ، و " قال " هذان الفعلان ماضيان لفظاً ، مستقبلان معنًى ؛ لعطفهما على مستقبل ، وهو " ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ " ، وهما نظيرُ قوله - تعالى - : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ } [ هود : 98 ] . و " إِيَّانَا " : مفعولٌ مقدمٌ ، قُدِّم للاهتمام به والاختصاص ، وهو واجبُ التَّقديم على ناصبه ؛ لأنَّه ضميرٌ منفصلٌ ، لو تأخَّر عنه ، لزم اتِّصاله ، وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا من " كَفَى " المخففة ، واللاَّم التي بعدها ، بما يُغْنِي عن الإعادة . [ البقرة198 ] .

فصل

المعنى " ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ " العابد والمعبُود ، ثمَّ إن المعبود يتبرَّأ من العابد ، ويتبيَّن لهُ أنَّه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته ، ونظيرهُ قوله - تعالى - : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] ، وقوله : { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] .

و " الحَشْر " : الجمع من كل جانبٍ إلى موقفٍ واحدٍ { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ } أي : الزَمُوا مكانكم " وشُرَكاؤكُم " يعني : الأوثان ، حتَّى تسألوا ، " فزيَّلْنَا بَيْنَهُم " أي : ميَّزنا وفرَّقنا بينهم ، وجاءت هذه الكلمة على لفظ الماضي ، بعد قوله : " ثُمَّ نقُولُ " وهو مستقبل ؛ لأنَّ ما جاءكم الله بِهِ ، سيكون صار كالكائن الآن ، كقوله : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] .

وأضاف الشُّركاء إليهم ؛ لأنَّهم جعلُوا لهم نصيباً من أموالهم .

وقيل : لأنَّ الإضافة يكفي فيها أدنى تعليق ، فلمَّا كان الكُفَّار هُم الذين أثبتُوا هذه الشَّركة ، حسنت إضافة الشركاءِ إليهم ، وقيل : لمَّا خاطب العابدين والمعبودين بقوله " مَكانَكُم " صارُوا شُركاء في هذا الخطاب .

قال بعض المُفسِّرين : المراد بهؤلاء الشُّركاء : الملائكة ، واستشهدُوا بقوله - تعالى - : { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] ، وقيل : هم الأصنام ، ثم اختلف هؤلاء كيف ذكرت الأصنام هذا الكلام ؟ فقيل : إن الله - تعالى - يخلقُ فيها الحياة والعقل والنُّطق ، وقيل : يخلق فيهم الرُّوح من غير حياةٍ ، حتَّى يسمعُوا منهم ذلك .

فإن قيل : إذا أحياهُم الله هل يبقيهم أو يفنيهم ؟ .

فالجوابُ : أنَّ الكلَّ محتملٌ ، ولا اعتراض على الله في أفعاله ، وأحوال القيامة غير معلومة ، إلاَّ القليل ، ولا شك أن هذا خطاب تهديدٍ في حق العابدين ، فهل يكُون تهديداً في حق المعبودين ؟ قالت المعتزلة : لا يجُوزُ ذلك ؛ لأنَّه لا ذنب للمعبود ، ومن لا ذنب له ، لم يصحَّ تهديده ، وتخويفه ، وقال أهلُ السُّنَّة : لا يسأل عما يفعل .

فإن قيل : قول الشركاء : { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } وهم كانوا قد عبدوهم ، يكون كذباً ، وقد تقدَّم في سورة الأنعام ، اختلاف الناس في أنَّ أهل القيامة هل يكذبون أم لا ؟ .

والجواب ههنا : أنَّ منهم من قال : المراد من قولهم : " مَا كُنتُمْ إيَّانَا تَعْبُدُونَ " : هو أنَّكُم ما عبدْتُمُونَا بأمرنا وإرادتنا ؛ لأنَّهم استشهدوا بالله في ذلك بقولهم : { فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } .


[18429]:البيت لقطري بن الفجاءة أو لعمرو بن الإطنابة. ينظر: إنباه الرواة 3/281 وحماسة البحتري ص 9 والحيوان 6/425 وجمهرة اللغة ص1095 وخزانة الأدب 2/428 والدرر 4/84 وديوان المعاني 1/114 وسمط اللآلي ص574 وشرح التصريح 2/243 وشرح شواهد المغني ص 546 والمقاصد النحوية 4/415 وأوضح المسالك 4/189 والخصائص 3/35 وشرح الأشموني 3/569 وشرح شذور الذهب ص 447، 524 وشرح المفصل 4/74 واللسان (جشأ) والمغني 1/203 والهمع 2/13 والدر المصون 4/27.
[18430]:ينظر: البحر المحيط 5/103.
[18431]:ينظر: الدر المصون 4/27.
[18432]:ينظر: المحرر الوجيز 3/117.
[18433]:ينظر: البحر المحيط 5/154.
[18434]:ينظر: الكشاف 2/343، البحر المحيط 5/153، الدر المصون 4/27.
[18435]:ينظر: المشكل 1/380.
[18436]:ينظر: الكشاف 2/344، المحرر الوجيز 3/117، البحر المحيط 5/154، الدر المصون 4/28.
[18437]:البيت لزهير بن أبي سلمى، ينظر: ديوانه 68 والبحر المحيط 5/154، والدر المصون 4/28.
[18438]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/154 والدر المصون 4/28.