وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
وهي مكية كلها قاله الضحاك وغيره وقال مقاتل هي مكية إلا قوله ' ?واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ?' إلى قوله '? من ظهورهم ذرياتهم ?فإن هذه الآيات مدنية .
تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة التي في أوائل السورة وذكر اختلاف المتأولين فيها ، ويختص هذا الموضع زائداً على تلك الأقوال بما قاله السدي : إن { المص } هجاء اسم الله تبارك وتعالى هو المصور ، وبقول زيد بن علي : إن معناه أنا الله الفاصل .
هذا هو الاسم الذي عرفت به هذه السورة ، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم . أخرج النسائي ، من حديث أبي مليكة ، عن عروة بن زيد ابن ثابت : أنه قال لمروان به الحكم : ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السور وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بأطول الطوليين . قال مروان قلت : يا أبا عبد الله ما أطول الطوليين ، قال : الأعراف . وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بطولا الطوليين . والمراد بالطوليين سورة الأعراف وسورة الأنعام فإن سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام ، باعتبار عدد الآيات . ويفسر ذلك حديث عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين .
ووجه تسميتها أنها ذكر في لفظ الأعراف بقوله تعالى { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال } الآية . ولم يذكر في غيرها من سور القرآن ، ولأنها ذكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة ، ولم يذكر في غيرها من السور بهذا اللفظ ، ولكنه ذكر بلفظ { سور } في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } في سورة الحديد .
وربما تدعى بأسماء الحروف المقطعة التي في أولها وهي : { ألف_لام_ميم_صاد } أخرج النسائي من حديث أبي الأسود ، عن عروة ، عن زيد بن ثابت : أنه قال لمروان : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بأطول الطوليين : { ألف ، لام ، ميم ، صاد } . وهو يجيء على القول بأن الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور هي أسماء للسور الواقعة فيها ، وهو ضعيف ، فلا يكون { ألمص } اسما للسورة ، وإطلاقه عليها إنما هو على تقدير التعريف بالإضافة إلى السورة ذات ألمص ، وكذلك سماها الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة في باب سجود القرآن ولم يعدوا هذه السورة في السور ذات في الأسماء المتعددة . وأما ما في حديث زيد من أنها طولا الطوليين فعلى إرادة الوصف دون التلقيب . وذكر فيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز أن هذه السورة تسمى سورة الميقات لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } . وأنها تسمى سورة الميثاق لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله : { الست بربك قالوا بلى }{[1]} .
وهي مكية بلا خلاف . ثم قيل جميعها مكي ، وهو ظاهر رواية مجاهد وعطاء الخراساني عن ابن عباس ، وكذلك نقل عن ابن الزبير ، وقيل نزل بعضها في المدينة ، قال قتادة آية : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } نزلت بالمدينة ، وقال مقاتل من قوله : { واسألهم عن القرية } إلى قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } نزلت بالمدينة ، فإذا صح هذا احتمل أن تكون السورة بمكة ثم ألحق بها الآيتان المذكورتان ، واحتمل أنها نزلت بمكة وأكمل منها بقيتها تانك الآيتان .
ولم أقف على ما يضبط به تاريخ نزولها ، وعن جابر بن زيد أنها نزلت بعد سورة ( ص ) و قبل سورة { قل أوحي } ، وظاهر حديث ابن عباس في صحيح البخاري أن سورة { قل أوحي } أنزلت في أول الإسلام حين ظهور دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك في أيام الحج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه بأصحابه إلى سوق عكاظ ، فلعل ذلك في السنة الثانية من البعثة ، ولا أحسب أن سورة الأعراف قد نزلت في تلك المدة لأن السور الطوال يظهر أنها لم تنزل في أول البعثة .
ولم أقف على هاتين التسميتين في كلام غيره وهي من السبع الطوال التي جعلت في أول القرآن لطولها وهي سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، وبراءة وقدم المدني منها وهي سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ؛ ثم ذكر المكي وهو : الأنعام ، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني اعتبارا بأن سورة الأنعام أنزلت بمكة بعد سورة الأعراف فهي أقرب إلى المدني من السور الطوال .
وهي معدودة التاسعة والثلاثين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد عن ابن عباس ، نزلت بعد سورة ص وقبل سورة الجن ، كما تقدم ، قالوا جعلها ابن مسعود في مصحفه عقب سورة البقرة وجعل بعد ها سورة النساء, ثم آل عمران ، ووقع في مصحف أبي بعد آل عمران الأنعامُ ثم الأعراف . وسورة النساء هي التي تلي سورة البقرة في الطول وسورة الأعراف تلي سورة النساء في الطول .
وعد آي سورة الأعراف مائتان وست آيات في عد أهل المدينة والكوفة ، ومائتان وخمس في عد أهل الشام والبصرة ، قال في الإتقان قيل مائتان وسبع .
افتتحت هذه السورة بالتنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه وكان افتتاحها كلاما جامعا وهو مناسب لما اشتملت عليه السورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن .
وتدور مقاصد هذه السورة على محور مقاصد ؛ منها : النهي عن اتخاذ الشركاء من دون الله .
وإنذار المشركين عن سوء عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة .
ووصف ما حل بالمشركين والذين كذبوا الرسل : من سوء العذاب في الدنيا ، وما سيحل بهم في الآخرة .
تذكير الناس بنعمة خلق الأرض ، وتمكين النوع الإنساني من خيرات الأرض ، وبنعمة الله على هذا النوع بخلق أصله وتفضيله .
وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان .
وتحذير الناس من التلبس ببقايا مكر الشيطان من تسويله إياهم حرمان أنفسهم الطيبات ، ومن الوقوع فيما يزج بهم في العذاب في الآخرة .
ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتقين .
والتذكير بالبعث وتقريب دليله .
والنهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان .
والتذكير ببديع ما أوجده الله صلاحها وإحيائها .
والتذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التقوى والإصلاح .
وأفاض في أحوال الرسل مع أقوامهم المشركين ، ومما لاقوه من عنادهم وأذاهم ، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله الناس قبل أن ينزل بهم العذاب ، وإعذارا لهم ان يقلعوا عن كفرهم وعنادهم ، فإن العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال .
وأطال القول في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، وفي تصرفات بني إسرائيل مع موسى عليه السلام .
وتخلل قصته بشارة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته وفضل دينه .
ثم تخلص إلى موعظة المشركين كيف بدلوا الحنيفية وتقلدوا الشرك ، وضرب لهم مثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشيطان فانسلخ عن الهدى .
ووصف حال أهل الضلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلهية وأن لله الصفات الحسنى صفات الكمال .
ثم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصدر والمداومة على الدعوة وحذرهم من مداخل الشيطان بمراقبة الله بذكره سرا وجهرا والإقبال على عبادته .
هذه الحروف الأربعة المقطّعة التي افتتحت بها هاته السّورة ، يُنطَق بأسمائها ( ألِفْ لاَمْ مِيمْ صَادْ ) كما يَنْطِق بالحروف ملقِّن المتعلّمين للهجاء في المكتب ، لأنّ المقصود بها أسماء الحروف لا مسميّاتها وأشكالها ، كما أنّك إذا أخبرت عن أحد بخبر تذكر اسم المخبر عنه دون أن تَعْرِض صورته أو ذاته ، فتقولُ مثلاً : لقيت زيداً ، ولا تقول : لقيت هذه الصورة ، ولا لقيتُ هذه الذات .
فالنّطق بأسماء الحروف هو مقتضَى وقوعها في أوائل السّور التي افتتحت بها ، لقصد التّعريض بتعجيز الذين أنكروا نزول القرآن من عند الله تعالى ، أي تعجيزِ بلغائهم عن معارضته بمثله كما تقدّم في سورة البقرة .
وإنّما رسموها في المصاحف بصور الحروف دون أسمائها ، أي بمسمّيات الحروف التي يُنطق بأسمائها ولم يرسموها بما تُقْرأ به أسماؤُها ، مراعاة لحالة التّهجي ( فيما أحسب ) ، أنّهم لو رسموها بالحروف التي يُنطق بها عند ذكر أسمائها خَشُوا أن يلتبس مجموعُ حروف الأسماءِ بكلمات مثل ( يَاسين ) ، لو رسمت بأسماء حروفها أن تلتبس بنداء من اسمه سين .
فعدلوا إلى رسم الحروف علماً بأنّ القارىء في المصحف إذا وجد صورة الحرف نَطق باسم تلك الصّورة . على معتادهم في التّهجي طرداً للرسم على وتيرة واحدة .
على أنّ رسم المصحف سنّة سنّها كُتاب المصاحف فأقِرّت . وإنّما العمدة في النّطق بالقرآن على الرّواية والتّلقي ، وما جُعلت كتابة المصحف إلاّ تذكرة وعوناً للمتلقّي .