في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{الٓمٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأعراف مكية وآياتها ست ومائتان

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه سورة مكية - كسورة الأنعام - موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي . . العقيدة . . ولكن ما أشد اختلاف المجالين اللذين تتحرك فيهما السورتان في معالجة هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة !

إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة ، وذات ملامح متميزة ، وذات منهج خاص ، وذات أسلوب معين ، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة .

إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ، ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة ، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع ، وتحقيق هذه الغاية .

إن الشأن في سور القرآن - من هذه الوجهة - كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة . . كلهم إنسان ، وكلهم له خصائص الإنسانية ، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني . . ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع . نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح ، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة !

هكذا عدت أتصور سور القرآن . وهكذا عدت أحسها ، وهكذا عدت أتعامل معها . بعد طول الصحبة ، وطول الألفة ، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته ، وملامحه وسماته !

وأنا أجد في سور القرآن - تبعا لهذا - وفرة بسبب تنوع النماذج ، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق ؛ ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع ، والاتجاهات والمطالع !

إنها أصدقاء . . كلها صديق . . وكلها أليف . . وكلها حبيب . . وكلها ممتع . . وكلها يجد القلب عنده ألواناً من الاهتمامات طريفة ، وألواناً من المتاع جديدة ، وألواناً من الإيقاعات ، وألواناً من المؤثرات ، تجهل لها مذاقاً خاصاً ، وجواً متفرداً .

ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة . . رحلة في عوالم ومشاهد ، ورؤى وحقائق ، وتقريرات وموحيات ، وغوص في أعماق النفوس ، واستجلاء لمشاهد الوجود . . ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة .

إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة . وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة . . ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها ؛ وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها ؛ وتواجه الجاهلية العربية في حينها - وكل جاهلية أخرى كذلك - مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق ؛ وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالاً وتفصيلاً ونحن نقدم السورة ونستعرضها - في الجزء السابع وفي هذا الجزء أيضاً - ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف . . بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج ، وتسلك ذلك الطريق . . نجد سورة الأعراف - وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك - تأخذ طريقاً آخر ، وتعرض موضوعها في مجال آخر . . إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري . . في مجال رحلة البشرية كلها مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى ، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها . . وفي هذا المدى المتطاول تعرض " موكب الإيمان " من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - [ ص ] - تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ . يواجه بها البشرية جيلاً بعد جيل ، وقبيلاً بعد قبيل . . ويرسم سياق السورة في تتابعه : كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى ؟ كيف خاطبها هذا الموكب وكيف جاوبته ؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله ؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة . .

إنها رحلة طويلة طويلة . . ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة ، وتقف منها عند معظم المعالم البارزة ، في الطريق المرسوم . ملامحه واضحة ، ومعالمه قائمة ، ومبدؤه معلوم ، ونهايته مرسومة . . والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة . ثم تقطعه راجعة . . إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى . .

لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء ، ممثلة في شخصين اثنين . . آدم وزوجه . . أبوي البشر . . وانطلق معهما الشيطان . مأذونا من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما ومأخوذاً عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك . ومبتلي كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار ؛ ليأخذوا عهد الله بقوة أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة ؛ وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله ، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم !

انطلقت البشرية من هناك . . من عند ربها سبحانه . . انطلقت إلى الأرض . تعمل وتسعى ، وتكد وتشقى ، وتصلح وتفسد ، وتعمر وتخرب ، وتتنافس وتتقاتل ، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد . . ثم ها هي ذي تؤوب ! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال . . ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة . . من ورد وشوك . ومن غال ورخيص ، ومن ثمين وزهيد ، ومن خير وشر ، ومن حسنات وسيئات . ها هي ذي تعود في أصيل اليوم . . فقد انطلقت في مطلعه ! . . وها نحن أولاء نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال - أيا كانت هذه الأحمال - ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها . تظلع في الطريق ، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير . حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان ، ووقف يرتقب في خشية ووجل . . إن كل فرد قد عاد بحصيلته فرداً . . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ! وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ، ويلقى جزاءه . . ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية ، فوجاً فوجاً . إلى جنة أو إلى نار . حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين . فقد كانوا هنالك في هذه الأرض مغتربين : ( كمابدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون ) . .

وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل . معارك الهدى والضلال . معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين ، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين . ويعرض الصراع المتكرر ؛ والمصائر المتشابهة . وتتجلي صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها ؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها . وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين . حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير . . وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة . فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة ! كلمة تعقيب . للإنذار والتذكير . . ثم يمضي .

إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهاباً وإياباً . تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية ، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول . . حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى . . وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام - وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود - وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام ، واضح التميز ، مختلف الحدود .

ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين . فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع . وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة ؛ وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع ، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع . . إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو ، سهل الإيقاع ، تقريري الأسلوب . وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، حتى تؤوب ! وقد يشتد الإيقاع أحياناً في مواقف التعقيب ؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب !

. . وهما - بعد - سورتان مكيتان من القرآن . . ! ! !

ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري . .

إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري ، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة . . مجرد عرض في أسلوب قصصي . . إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية . . ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف ؛ وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناساً أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن ؛ فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة ؛ ويخاطبهم بما فيها من عبر ؛ مذكرا ومنذرا ؛ ويخوض معهم معركة حقيقية حية . . ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية ؛ موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة ؛ وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ .

إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة . ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا . . إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي . إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد ، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني !

ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب . كما يركز على نقطة الانطلاق ، وعلى نقطة المآب . وبينهما يمر بقصص قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب . ثم يركز تركيزاً شديداً على قصة قوم موسى .

وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة :

تبدأ السورة على هذا النحو :

آلمص . كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء . قليلا ما تذكرون . .

فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول الله [ ص ] وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن . . وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص ، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة ، وعودتها من الرحلة المرسومة ، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة . . إنما هو خطاب غير مباشر ، - وأحيانا مباشر - للنبي [ ص ] وقومه للإنذار والتذكير ، كما يشير هذا المطلع القصير .

وقول الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] :

( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ) . .

يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ؛ ويعلم أنه إنما يستهدف أمراً هائلاً ثقيلاً ، دونه صعاب جسام . . يستهدف إنشاء عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس . ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس ، ومن تصورات الجاهلية في العقول ، ومن قيم الجاهلية في الحياة ، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب ، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها ، غريبة على البيئة ، ثقيلة على النفوس ؛ مستنكرة في القلوب . . كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار ، والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والعادات والتقاليد ، والأوضاع والارتباطات . . ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل ، الحرج الذي يدعو الله - سبحانه - نبيه [ ص ] ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه ؛ وأن يمضي به ينذر ويذكر ؛ ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار ، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء . .

ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم ، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم ، ويذكرهم بمصائر المكذبين ، ويعرض عليهم مصارع الغابرين . . جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق :

وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون . .

وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة . . تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض . . وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض . وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون ؛ ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها ؛ والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته :

( ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش . قليلا ما تشكرون ) . .

وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى ، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة . والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة ؛ ويعرض قصة النشأة ، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير ، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية ، ومؤثرات عميقة :

ولقد خلقناكم ثم صورنا كم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين . قال : فاهبط منها ، فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين . قال : أنظرني إلى يوم يبعثون . قال : إنك من المنظرين . قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين . قال : اخرج منها مذؤوماً مدحوراً ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين . . ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . . فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ، وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين . فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما : إن الشيطان لكما عدو مبين ؟ قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ؛ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . قال : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون . .

وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها ، ومصائر المرتحلين جميعا . . وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة ، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة ، وبني آدم جميعا . كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة ، ومنافذ الشيطان إليه منها

ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل ، بالإنذار والتحذير . . تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد . . وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر . وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم ، يذكرهم وينذرهم ، ويحذرهم مصيراً كهذا المصير :

يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ، ولباس التقوى ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون . . يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، إنه يراكم هو وقبيلة من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . .

( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .

ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور ، والخصف من ورق الجنة ؛ ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به ، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم . . لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك . حيث كانواتحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا ، ويحرمون أنواعاً من الثياب ، وأنواعا من الطعام في فترة الحج . ويزعمون أن هذا من شرع الله ، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم . . ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية ، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية . . وفي كل جاهلية في الحقيقة . . أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى ؟

وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل . . إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل . ولأنه يواجه - في كل مرة - حالة معينة ، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع ، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها . .

وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام - في الجزء السابع - يكون قاعدة هامة . . هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئاً لا تستدعيه حالة واقعة . . إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام - ولا حتى القصص - إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها . .

والآن - وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها ، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى ، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى . . الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية ، نهاية المرحلة الكبرى ، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء ، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة .

وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة ، وأكثرها تفصيلاً ، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع . . وموقعه في السورة تعقيباً على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه ؛ وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ؛ وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلاً يقصون عليهم آياته . . موقعه كذلك يجعله مصداقاً لما ينبى ء به أولئك الرسل . فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها ؛ وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا : ( أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) . . فعاد المغتربون إلى دار النعيم ! ! !

والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل .

والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير ، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب ، ويطلبون الخوارق لتصديقه ، من سوء المصير :

( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق . فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ؟ قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .

وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد ، من المنشأ إلى المعاد ، يقف السياق ليعقب عليها ، مقرراً " حقيقة الألوهية " و " حقيقة الربوبية " في مشاهد كونية ؛ تشهد بهذه الحقيقة ؛ على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالاً تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة ، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحسالمفتوح والبصيرة المستنيرة . وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية : وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده ، فالله هو ربه وحاكمه . فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازاً في لحن الوجود المؤمن ؛ وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر . . وهو رب العالمين . .

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين . ادعوا ربكم تضرعاً وخفية . إنه لا يحب المعتدين . ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين . وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ؛ فأخرجنا به من كل الثمرات . كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون . والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون .

والآن تمضي الرحلة ، وتجري القصة ، ويبرز الموكب الإيماني الجليل ، يهتف بالبشرية الضالة ، يذكرها وينذرها ، ويحذرها سوء المصير . والبشرية الضالة تلوي وتعاند ، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد ؛ ثم بالطغيان والبطش . . ويتولى الله سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار ، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض ، ثم بالبطش والإيذاء . وبعد أن يفاصلوا قومهم على العقيدة ، ويختاروا الله وحده ويدعوا له الأمر كله .

ويعرض السياق قصة نوح ، وقصة هود ، وقصة صالح وقصة لوط ، وقصة شعيب . . مع أقوامهم ، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . . ويجادلهم قومهم في إفراد الله سبحانه بالألوهية ، ويستنكرون أن تكون لله وحده الربوبية . كما يجادلونهم في إرسال الله بشراً من الناس بالرسالة ! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا ، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية ! - وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون ، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحرراً " وتقدمية " ! - ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة .

ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص ، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون . ولكنهم لا يقدرون نصح رسولهم لهم ؛ ولا يتدبرون عاقبة أمرهم ، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول ، وعمق التجرد من كل مصلحة ، وعمق الإحساس بضخامة التبعة . .

ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح - أول القصص - وما ورد عن قصة شعيب ، آخر هذه الجملة من القصص ، التي يقف السياق بعدها للتعقيب :

( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين . قال : يا قوم ليس بي ضلالة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلّغكم رسالات ربي ، وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . أو عجبتم أن جاءكم ذكرمن ربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ؟ فكذبوه ، فأنجيناه والذين معه في الفلك ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، إنهم كانوا قوما عمين ) . . .

( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . قد جاءتكم بينة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به ، وتبغونها عوجا ، واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ، قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . قال : أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء الله ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون . فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين . الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها . الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين . فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ . . )

ويمثل هذان النموذجان بقية القصص بينهما . سواء في تصوير حقيقة العقيدة الواحدة التي أرسل الله بها رسله جميعاً لأبناء آدم - كل في قومه - أو في تلقي الملأ المستكبرين والأتباع المستضعفين لهذه الحقيقة . أو في وضوح هذه العقيدة وحسمها في نفوس الرسل وأتباعهم . أو في روح النصح والرغبة في هداية قومهم . . ثم في مفاصلتهم لأقوامهم عندما يتبين لهم عنادهم وإصرارهم الأخير ثم في إدارة الله - سبحانه للمعركة ، وأخذ المكذبين بعد مفاصلة رسلهم لهم ، والانتهاء من إنذارهم وتذكيرهم . وعتو المكذبين وإصرارهم على ما هم فيه .

وهنا يقف السياق وقفة للتعقيب . يبين فيها سنة الله في تعامل قدر الله مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون . إذ يأخذهم أولا بالضراء والبأساء ، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب . فإذا لم تهزهم يد البأس وكلهم إلى الرخاء - وهو أشد فتنة من البأس - حتى تلتبس عليهم سنة الله ، ولا ينتبهوا لها . ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون ! . .

وبعد بيان هذه السنة يهز قلوبهم بالخطر الذي يتهددهم في غفلاتهم . فمن يدريهم أن قدر الله يتربص بهم ، ليجري فيهم سنته تلك ؟ أفلا تهديهم مصارع الغابرين ، وهم في ديارهم يسكنون ؟

وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون . ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ! فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون . ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟ أفأمنوا مكر الله ؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون . . تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين . .

بعد ذلك يعرض السياق قصة موسى مع فرعون وملئه ، ومع قومه بني إسرائيل : وتستغرق القصة أكبر مساحة استغرقتها في سورة قرآنية ؛ وتعرض منها حلقات شتى ؛ ويقف السياق عند بعض الحلقات للتعقيب ؛ كما يقف في نهايتها لتعقيب طويل حتى نهاية السورة .

ولقد وردت حلقات من قصة موسى - عليه السلام - قبل ذلك - حسب ترتيب النزول - في سور : المزمل ، والفجر ، و ق ، والقمر . . وكلها إشارات قصيرة . وهذه أول سورة بعد تلك السور تجيء فيها هذه الحلقات الطويلة ، في هذه المساحة العريضة . .

وقد شملت حلقة مواجهة فرعون بحقيقة العقيدة . وحلقة التحدي والسحرة - وهما كثيرتا الورود في السور الأخرى - وحلقة أخذ آل فرعون بالسنين والآفات وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم - التي لم تفصل إلا في هذه السورة - وحلقة إغراق فرعون والملأ من قومه . . ثم استمر السياق مع بني إسرائيل . وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهاً - صنما - كالقوم الذين مروا عليهم بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر ! وحلقة ميقاته مع ربه وطلبه رؤيته ودك الجبل وصعقه وتنزيل الألواح عليه . وحلقة اتخاذ قومه للعجل في غيبته . وحلقة الميقات الثاني مع السبعين من قوم موسى وأخذ الصاعقة لهم حين قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . وحلقة عصيانهم في دخول القرية وفي صيد السمك يوم السبت ! وحلقة نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة . . وكلها معروضة بتفصيل واسع ، مما جعل القصة تستغرق حزباً كاملاً من السورة .

وفي موقف من مواقف القصة يُدخل السياق الرسالة النبوية الأخيرة ويصف طبيعتها وحقيقتها . وذلك عندما دعا موسى - عليه السلام - ربه في شأن من صعقوا من قومه ؛ واستنزل رحمته - سبحانه - على هذا النحو الذي يتداخل فيه القصص لتأدية غرض المعركة التي يخوضها القرآن فعلاً :

( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ، فلما أخذتهم الرجفة ، قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ، أنت ولينا ، فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك . قال : عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة . والذين هم بآياتنا يؤمنون : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون ) .

وفي ظل هذا النبأ الصادق من الله ، والوعد السابق برسالة النبي الأمي ، يأمر الله النبي أن يعلن طبيعة رسالته ، وحقيقة دعوته ، وحقيقة ربه الذي أرسله ، والأصل الاعتقادي الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من قبله :

( قل : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت ، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، واتبعوه لعلكم تهتدون ) .

ثم تواصل القصة سيرها بعد هذه الوقفة ، إلى موقف العهد ونتق الجبل وأخذ الميثاق . وفي ظل مشهد الميثاق والعهد على بني إسرائيل يذكر العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين :

( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ ) . .

ويمضي السياق بعد ذلك في تعقيبات منوعة ، يعرض في أحدها بعد مشهد العهد الفطري مباشرة ، مشهد الذي آتاه الله آياته ثم انسلخ منها - كبني إسرائيل وككل من يؤتيه الله آياته ثم ينسلخ منها ! - وهو مشهد يذكرنا بصوره وحركته وإيقاعه والتعقيب عليه بمشاهد سورة الأنعام وجوها كذلك :

( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب : إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث ! ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ؛ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون . من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون . ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لايفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون . . )

ثم يمضي السياق يتحدث عن مسائل العقيدة حديثاً مباشراً . ويعرض مع الحديث بعض المؤثرات من المشاهد الكونية ومن التحذير من بأس الله وأخذه ؛ ومن لمس قلوبهم ليتفكروا ويتدبروا في شأن الرسول ورسالته . . .

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يعملون . وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم ، إن كيدي متين . أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من شيء ، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ من يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يعمهون . .

ثم يأمر الله رسوله [ ص ] أن يعلمهم طبيعة الرسالة وحدود الرسول فيها . وذلك بمناسبة سؤالهم له عن تحديد موعد القيامة التي يخوفهم بها !

( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ ! قل : إنما علمها عند ربي ، لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . يسألونك كأنك حفي عنها ! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . قل : لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . .

ثم يصور لهم كيف تنحرف النفس - التي أخذ الله عليها العهد الذي أسلفنا - عن التوحيد الذي أقرت به فطرتها ؛ ويستنكر تصورات الشرك ومعبوداته ؛ ويوجه رسوله [ ص ] في نهاية هذه الفقرة إلى تحديهم وتحدي آلهتهم العاجزة :

( قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تُنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون )

ومن هنا إلى ختام السورة يتجه السياق إلى خطاب رسول الله [ ص ] كما كان افتتاحها خطاباً له - كيف يعامل الناس ؟ كيف يمضي بهذه الدعوة ؟ كيف يستعين على متاعب الطريق ؟ كيف يكظم غضبه وهو يعاني من نفوس الناس وكيدهم ؟ كيف يستمع هو والمؤمنون معه لهذا القرآن ؟ كيف يذكر ربه ويبقى موصولا به ؟ كما يذكره من عنده في الملأ الأعلى - سبحانه - :

( خذ العفو ، وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم ؛ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . وإذا لم تأتهم بآية قالوا : لولا اجتبيتها ! قل : إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي . هذا بصائر من ربكم ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين . . إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ، ويسبحونه ، وله يسجدون . . )

ولعل هذا التلخيص ، وهذه المقتطفات الكثيرة من السورة ، أن تصور ملامحها الخاصة ؛ وتميزها عن أختها سورة الأنعام في هذه الملامح . وفي منهج العرض . مع معالجة موضوع واحد . . موضوع العقيدة . .

وقد أرجأنا كل تفسير للنصوص ، وكل تفصيل للموضوع الذي تحمله ، إلى المواجهة التفصيلية .

. . فعلى بركة الله نمضي

( آلمص ) . . ألف . لام . ميم . صاد . .

هذا المطلع من الحروف المقطعة سبق الكلام عن نظائره في أول سورة البقرة وفي أول سورة آل عمران . وقد اخترنا في تفسيرها الرأي القائل ، بأنها حروف مقطعة يشير بها إلى أن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف العربية التي يستخدمها البشر ، ثم يعجزهم أن يؤلفوا منها كلاماً كهذا القرآن . وأن هذا بذاته برهان أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، فقد كانت أمامهم الأحرف والكلمات التي صيغ منها ، فلم يستطيعوا أن يصوغوا منها قرآنا مثله . فلا بد من سر آخر وراء الأحرف والكلمات . . وهو رأي نختاره على وجه الترجيح لا الجزم . والله أعلم بمراده .

وعلى ذلك يصح القول بأن ( المص ) مبتدأ خبره : ( كتاب أنزل إليك ) . . بمعنى أن هذه الأحرف وما تألف منها هي الكتاب . . كما يصح القول بأن ( المص ) مجرد إشارة للتنبيه على ذلك المعنى الذي رجحناه . و( كتاب )خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو كتاب : أو هذا كتاب . .