تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{الٓمٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأعراف

[ مائتان وست آيات : مكية ]{[1]}

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العليم بخلقه اللطيف لرشد عباده ، ضرب لهم الآيات والبيان لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى ، ووصّى به [ رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فبعث محمدا ]{[2]}صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافّة ، وأنزل{[3]} إليه الكتاب ، تلا فيه ما في الكتب الأولى ليبيّن لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأميّ العربي لم يعلم [ ما ]{[4]} في الكتب الأعجمية إلا من عند الله ليكون ذلك أوضح لهم في الحجّة .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل الرسالة معروفا عند الفريقين أنه لم يتل كتابا ، ولا خطّه بيمينه ، ولا كان عندهم من شعرائهم ولا [ من العارفين ]{[5]}بأنسابهم وعلم أنبائهم ، وذلك أبلغ في البرهان ، فأنبأه [ الله ]{[6]} فيه علم الغيوب وفرض الفرائض ، وحكم فيه الأحكام ، وأنزل فيه الحجج بتأليف ، يعجز{[7]} عنه من دون الله ، ليبيّن لهم أنه من عند الله .

فأنف قومه ، وأبوا أن يسمعوه ، واستكبروا عليه ، وقالوا : { لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] ، [ وقالوا ]{[8]} : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .

فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم ، فأنزل في الكتاب كلاما افتتح به السورة ، لم يكن من كلام قومه . فلما سمعوا ظنوا أنه بديع ابتدع محمد كابتداعهم البلاغات والأوابد ، وأيقنوا أن يكون محمد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون ، فتدبّروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام ، فسمعوا كلاما مجيدا حكيما ، وبناء عظيما وحججا نيّرة ومواعظ شافية ، فدخل أكثرهم في الإسلام ، وقعد عنه رجلان : معاند متعمّد وجاهل مقلّد ، لا ينظر .

وفي ما أنزل مما وصف : [ قوله ]{[9]} { كهيعص } [ مريم : 1 ] وقوله{[10]} : { طسم } [ الشعراء : 1 ] وقوله{[11]} : { المص } [ الأعراف : 1 ] وقوله{[12]} : { المر } [ الرعد : 1 ] وما أشبهها .

الآيتان 1و2 قال{[8053]} : { المص } لتعطف بها على النظر في ما بعدها ، فقال : { كتاب أنزل إليك } يقول : كتاب من ربك { لتنذر به } عباده { فلا يكن في صدرك حرج منه } يقول : فلا يضيقنّ صدرك عن الذي فرض الله عليك فيه من البلاغ إلى قومك وبما فرض عليك من البراءة منهم ومما يعبدون من دون الله .

فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يخاف ما خافت الرسل من بين يديه ؛ فقال موسى : { فأخاف أن يقتلون } [ الشعراء : 14 ] وقد كان يعرف قومه بالتسرّع إلى القتل في ما ليس مثل ما يأتيهم به . فأمّنه الله منهم بقوله : { والله يعصمك من الناس } وقال في آخر هذه السورة : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } [ الآية : 195 ] يفهمونها عن الله بأنها{[8054]}من أعظم آيات الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم .

وفي الأثر أن الله تعالى لما أرسله إلى قومه قال{[8055]} : إي رب إذا شعلوا رأسي يذرونه{[8056]} مثل خبزه ، فأمّنه الله تعالى من ذلك ، فقال : { فلا يكن في صدرك } من البلاغ ، ولا يضيقنّ صدرك عما فرض الله عليك من العبادة والحكم الذي تخالف فيه قومك .

ثم وصف الكتاب ، فقال : { وذكرى للمؤمنين } يقول : يتذكرون ما{[8057]}فيه ، ويتدبّرونه ، فيعلمون به الحق من الباطل ، ويذكرون به ما فرض عليهم .

ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطّعة خطابا ، خاطب الله بها رسله ، يفهمونها ، ولا يفهمها{[8058]} غيرهم على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصّهم [ إشارات يفهمها خواصّهم ]{[8059]} ولا يفهمها غيرهم . هذا متعارف في ما بين الخلق أن يكون لهم في ما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا . فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطّعة خطابات من الله تعالى ، خاطب بها رسله ، وهم خواصه ؛ يفهمونها ، ولا يفهمها{[8060]} غيرهم .

ثم وجّه فهمهم لوجهين{[8061]} : يخبرهم ، فيقول : إني{[8062]} إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا ، أو كان البيان والمراد منها مقرونا بها وقت إنزالها فهموا المراد منها بما أفهمه الله ، وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم كقوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [ النساء : 105 ] أرى رسله شيئا لم ير ذلك غيرهم ولا أطلعهم على ذلك ؛ فهو{[8063]} من المتشابه [ على غيرهم ، وأما على الرسل فليس من المتشابه ]{[8064]} .

وقال الفرّاء : يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها الله من : أ ب ت ث إلى آخرها ، كأنه قال : إني جمعت هذه الحروف المتفرقة ، فجعلتها كتابا ، فأنزلتها من نحو{ المص } [ الأعراف : 1 ] و{ ألم } { الله } [ آل عمران : 1 ، 2 ] و{ الم } { ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ، 2 ] و{ المر } [ الرعد : 1 ] ونحوه ، والله أعلم بما أراد به . ذلك ، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا ، وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك .

وقوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } قيل : الحرج هو الضيق في الصدر . [ ثم يحتمل ضيق الصدر وجوها ]{[8065]} : يحتمل ضيق الصدر ما يحمّل عليه من الشدائد والخطرات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشؤوا على الكفر والشرك ، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همّهم{[8066]} القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف ، أو أن يوسوس في صدورهم الشيطان أنه ليس من عند الله ، أو أن يقول لهم{[8067]} : إنه من أساطير الأولين على ما قال أولئك الكفرة : { ما هذا إلا أساطير الأولين } [ الأحقاف : 17 ] .

ثم يحتمل قوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } على النهي أي لا [ يكن في صدرك ]{[8068]} حرج ؛ أي لا يضيقن صدرك ممّا حمّل عليك .

وقال بعضهم : { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك أنه من عند الله نزل . وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي ؛ لأنه بالنهي ما تكون عصمته .

ويحتمل ليس على النهي ، ولكن على ألاّ تحمل على نفسك ما فيه هلاكك كقوله تعالى : { ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون } [ النمل : 70 ] وكقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] ليس على النهي ، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

ثم إن الله عز وجل : أمّنه عما كان يخاف من هؤلاء بقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] وأمّنه من وساوس الشيطان على ما روي في الخبر أنه قيل[ له ]{[8069]} : ( ألك شيطان ؟ فقال : كان ولكن أعنت عليه ، فأسلم ) [ بنحوه مسلم 2815 ] أمّن عز وجل رسوله عن ذلك كله لما ذكرنا .

وقوله تعالى{ لتنذر به } يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة ، ويبشّر المؤمنين كقوله تعالى : { لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } [ الأحقاف : 12 ] فعلى ذلك قوله تعالى : { لتنذر به } الكفرة { وذكرى للمؤمنين } أي بشرى على ما ذكرنا ويكون في الإنذار بشرى ؛ لأنه إذا أنذر ، فقبل الإنذار ، فهو بشرى .

ويحتمل قوله تعالى : { لتنذر به } الكل [ الموافق ]{[8070]} والمخالف جميعا كقوله تعالى : { للعالمين نذيرا } [ الفرقان : 1 ] ، { وذكرى للمؤمنين } أي الذي ينتفع به المؤمنون .


[1]:- في ط ع: سمح.
[2]:- من ط ع: ويشير هذا القول إلى ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" انظر (سنن الترمذي) ج 5/199 رقم الحديث /2951/.
[3]:- من ط ع، الواو ساقطة من الأصل.
[4]:- من ط ع، في الأصل: الشكر.
[5]:- من ط ع، في الأصل: ذا.
[6]:- نفسه.
[7]:- لم تدرج مقدمة المصنف في ط م.
[8]:- في ط ع: الحق.
[9]:- في ط م: ليكون.
[10]:-في ط ع: نقصانا.
[11]:- في ط م: خاص.
[12]:- في النسخ الثلاث: يمكن.
[8053]:في الأصل وم: فقال.
[8054]:في الأصل وم: فإنها.
[8055]:في الأصل وم: فقال.
[8056]:في الأصل وم: فيذرونه.
[8057]:في الأصل وم: بما.
[8058]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[8059]:من م، ساقطة من الأصل.
[8060]:من م: في الأصل: يفهمون.
[8061]:أدرج قبلها في الأصل وم: يكون.
[8062]:من م، في الأصل: إلى.
[8063]:في الأصل وم: فهم.
[8064]:من م، ساقطة من الأصل.
[8065]:من م، في الأصل: وجوهما يحتمل ضيق الصدر.
[8066]:في الأصل: وم: همتهم.
[8067]:في الأصل وم: له.
[8068]:في الأصل وم: يكون في درك.
[8069]:ساقطة من الأصل وم.
[8070]:من م، ساقطة من الأصل.