قال ابن عباس- رضي الله عنهما- : إنها مكية . {[1]}
وقال قتادة : مكية غير قول [ الله ] تعالى : { وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة } [ الآية 163 ] إلى قوله –عز وجل- " يفسقون " ثمان آيات{[2]} وهي مائتان وست آيات ، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة ، وأربعة عشر ألفا وثلاث مائة وعشرة أحرف .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " آلمص : أنا اللَّهُ أَفَصِّلُ " ، وعنه " أنا اللَّهُ أعلمُ وأفَصِّلُ " {[15704]} . وقد تقدَّم الكلامُ على الأحْرُفِ المقطَّعَة في أوَّلِ الكتابِ .
وقال السُّدِّيُّ - رضي الله عنه - : " آلمص " على هجاءِ قولنا في أسماء اللَّه " سبحانه المصورُ " {[15705]} .
قال القَاضِي{[15706]} - رحمه الله - : ليس حَمْلُ هذا اللَّفْظِ على قولنا : أنا الله أفصل أولى من [ حمله ] على قوله : " أنَّا اللَّهُ أصْلِحُ " ، [ أنا الله أمتحن ، أنا الله أملك " ؛ لأنَّهُ إن كانت العبرةُ بحرفِ الصَّادِ فهو موجودٌ في قوله : أنّا اللَّهُ أصْلِحُ ، ] وإن كانت العبرةُ بحرف الميم فكما أنَّهُ موجودٌ في العلم فهو أيضاً موجود في الملك ، والامتحان ، فكان حَمْلُ قولنا " آلمص " على هذا المعنى بِعَيْنِهِ محضُ التَّحَكُّم ، وأيضاً فإنْ جاء تفسيرُ الألفاظِ بناءً على ما فيها من الحروفِ من غير أنْ تكون تِلْكَ اللفظَةُ موضوعة في اللُّغَةِ لذلِكَ المَعْنَى ؛ انْفَتَحَتْ طريقةُ البَاطنيّة{[15707]} في تفسير سائرِ [ ألفاظ ] القرآنِ الكريمِ بما يُشَاكِلُ هذا الطريق .
وأمَّا قولُ بعضهم : إنَّهُ من أسماء اللَّهِ - تبارك وتعالى - فأبعدُ ؛ لأنه ليس جعله اسْماً للَّه أولى من جعله اسماً لبعض رُسُلِهِ من الملائِكَةِ ، أو الأنبياءِ - عليهم ، وعلى نبيِّنَا أفضلُ الصَّلاة والسَّلام - ، ولأن الاسمَ إنَّمَا يَصيرُ للمسمَّى بواسِطَةِ الوَضْعِ والاصطلاح وذلك مفقودٌ هُنَا ، بل الحقُّ أنَّ قول : " آلمص " اسم لقب لهذه السُّورة الكريمة ، وأسماءُ الألقابِ لا تفيد ههنا فائدة في المسمَّيات ، بل هي قائِمَةٌ مقامَ الإرشاداتِ{[15708]} ، وللَّهِ - تبارك وتعالى - سبحانهُ أن يسمِّي هذه السورةَ بقوله : " آلمص " كما أنَّ الواحد مِنَّا إذا حدث له ولدٌ فإنَّهُ يسمِّيه بمحمِّدٍ .
قوله : " كِتَابٌ " : يجوز أن يكون خبراً عن الأحْرُف قَبْلَهُ ، وأن يكون خبراً للمبتدأ مُضْمِرٍ ، أي : هو كتابٌ ، كذا قدَّرهُ الزَّمَخْشَرِيُّ{[15709]} .
ويجوز أن يكون كتابٌ مبتدأ و " أنْزِلَ " صفتُهُ و " فَلاَ تَكُنْ " خبره ، والفاءُ زائدةٌ على رأي الأخْفَشَ{[15710]} أي : كتابٌ موصوفٌ بالإنزالِ إليكَ ، لا يكنْ في صدرك حرجٌ منهُ ، وهو بعيدٌ جدّاً . والقائمُ مقام الفاعل في " أنْزِلَ " ضميرٌ عائد على الكتابِ ، ولا يجوز أن يكون الجارَّ ؛ لئلا تخلو الصفةُ من عائدٍ .
والمرادُ بالكتابِ القرآن الكريم .
فإن قيل : الدَّلِيلُ الذي دَلَّ على صِحَّةِ نُبُوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو أن اللَّه - تبارك وتعالى - جَدُّهُ لا إله إلاَّ هو - خصَّهُ بإنزالِ هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته ، وما لم نَعْرِف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كَوْنَ هذه السورة نازلةً من عند الله - تبارك وتعالى - بقولِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ ؟
فالجوابُ : نَحْنُ نعلم بمحضِ العَقْل أنَّ هذه السورة الكريمة كِتَابٌ أنْزِلَ إليه من عِنْد اللَّهِ ؛ لأنه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام ما تَتَلْمَذَ لأسْتَاذٍ ، ولا تعلم من مُعَلِّمٍ ، ولا طَالَعَ كِتَاباً ، ولم يخالطِ العلماء والشُّعراءَ وَأهلَ الأخْبَارِ ، وانقضى من عمره صلى الله عليه وسلم أرْبَعُونَ سَنَةً ولم يتفق له شيءٌ من هذه الأحوالِ ، ثم بعد الأربعينَ ظهر له هذا الكتابُ العزيزُ المشتملُ على علوم الأولينَ والأخرينَ ، والعقلُ يشهدُ بأنَّ هذا لا يحصل إلا بطريقِ الوَحْي من عند اللَّه - تبارَك وتعالى - ؛ فثبت بهذا الدَّليل العقلي أن هذا الكتاب أنزل على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من عند ربه وإلهه عز وجل{[15711]} .
احتج القائلون بخلق القرآن الكريم بقوله : " كِتَابُ أنْزِلَ إِلَيْكَ " ، فوصف بكونه منزلاً والإنْزَالُ يقتضي الانتقال من حالٍ إلى حالٍ ، وذلك لا يليقُ بالقَدِيم فَدَل على أنَّهُ محدث .
والجوابُ أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز [ هو ] هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثةً مخلوقةً{[15712]} .
فإن قيل : هَبْ أنَّ المرادَ منه الحروف إلاَّ أنَّه الحروفَ أعْرَاضٌ غير باقية بدليل أنّها متوالية وكونها متوالِيةً يُشْعِرُ بعدمِ بقائِهَا ، وإذا كان كذلك العَرَضُ الذي لا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كيف يعقل وصفه بالنزول ؟
فالجوابُ : أنَّهُ سبحانه وتعالى أحْدَثَ هذه الرُّقُومَ والنُّقُوشَ في اللَّوْحِ [ المَحْفُوظِ ] ، ثم إنَّ الملك يطالعُ تلك النُّقوش ، وينزِّل من السَّماءِ إلى الأرض ويعلِّم محمداً - صلوات اللَّهِ وسلامه عليه - تلك الحروفَ والكلماتِ ، فكان المرادُ بكَوْنِ تلك الحروفِ نازلةً هو أنَّ مبلغها نزل من السَّمَاءِ إلى الأرْضِ .
الَّذين أثبتوا للَّه مَكَاناً تمسَّكُوا بهذه الآيةِ فقالوا : إنَّ كلمة " مِنْ " لابتداءِ الغَايَةِ ، وكلمة " إلَى " لانتهاء الغاية ، فقوله : " أنْزِلَ إليْكَ " يقتضي حصول مسافةٍ مبدؤهَا هو اللَّهُ - تبارك وتعالى - وغياتها هو مُحَمَّد - عليه أفضل الصلاة والسلام - ، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تبارك وتعالى مختص بجهة فوق ؛ لأن النُّزُولَ هو الانتقالُ من فوق إلى أسفل .
والجوابُ : لمَّا ثبت بالدَّلائل القاطِعَةِ أن المكان والجهة على اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى محال وجب حملُهُ على التَّأويلِ وهو أنَّ الملك انتقل من العلو إلى أسفل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.