تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{الٓمٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

بين يدي سورة الأعراف ( 24 )

سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي وهي إحدى السور التي بدأت ببعض حروف التهجي ( المص ) ولم يتقدم عليها من هذا النوع سوى ثلاث سور سبقتها في تاريخ النزول وهي ن ، ق ، ص .

ويبلغ عدد السور التي بدأت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة ، وكلها سور مكية ما عدا البقرة وآل عمران . وعدد آيات سورة الأعراف ( 206 ) آيات ، وعدد كلماتها ( 3315 ) كلمة .

معنى فواتيح السور :

ليس لهذه الفواتح في اللغة العربية معان مستقلة ، ولم يرد من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان للمراد منها ، بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف ، وهذه الآراء على كثرتها ترجع إلى رأيين اثنين .

أحدهما : أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه أحد سواه ، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين .

وثانيها : أن لها معنى ، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى .

فمنهم من قال : إنها أسماء للسور التي بدئت بها أوأن كلا من علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى .

ومنهم من قال : إنها ( رموز ) لبعض أسماء الله تعالى وصفاته .

ومنهم من قال : إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم ، وسياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها للاستماع إليه واستمالة العقول بشيء غريب على السمع للانتباه والإصغاء للقرآن .

وأشهر آراء علماء البلاغة والبيان أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن وان الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وفي هذا دلالة على أنه ليس من صنع بشر بل تنزيل من حكيم حميد .

ويرى ابن جرير الطبري أن أفضل الآراء في معنى فواتح السور هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها . فهي أسماء للسورة ، وهي رموز ، وهي حروف للتنبيه والتحدي . إلخ .

وسورة الأعراف هي السورة المكية الثانية في ترتيب المصحف ، وهي تتسم بتلك السمات العامة التي أسلفنا الإشارة إليها في الحديث عن سورة الأنعام .

ثم تتميز بطابعها الخاص بعد ذلك من ناحية الموضوعات التي تعالجها والسياق الذي تسير فيه .

وموضوع السورة الرئيس هو الإنذار . . إنذار من يتولون غير الله ومن يكذبون بآيات الله ومن يستكبرون عن طاعة الله ، ومن ينسون الله ومن لا يشكرون نعمته . إنذارهم هلاك الدنيا وعذاب الآخرة ، ذلك فوق الخزي والهوان والنسيان .

تبدأ السورة بالإنذار ، ثم تسلك بهذا المعنى سبلا شتى وتتصرف فيه تصرفات كثيرة وترسم له صورا متعددة وتلمس به المشاعر لمسات مختلفة . فتارة يأخذ السياق شكل القصة : قصة آدم مع إبليس ، ثم قصص نوح وهود وصالح وشعيب وموسى مع أقوامهم ؛ لتنتهي كل قصة بالعذاب والنكال لمن يخالفون عن أمر الله ، وتارة يأخذ شكل مشهد من مشاهد القيامة أو مشاهد الاحتضار تنكشف فيه مصائر المكذبين المتكبرين ، ومصائر الطائعين لله رب العالمين .

ويتخلل القصص والمشاهد ما يتسق مع الجوالعام من توجيه الأنظار والقلوب ومن الدعوة إلى التوبة والإنابة قبل أن يحل العقاب ويتحقق الإنذار ومن الإشارة إلى عواقب المكذبين من الأمم الخالية التي حق عليها النذير .

ويرد كل ذلك في تناسق مطلق بين السياق والقصة أو السياق والمشهد ، أو السياق والتوجيهات ، فتبدو القصص والمشاهد والتوجيهات كلها أجزاء من هذا السياق العام ملونة بلونه ، مظللة بجوه محققة للغرض الذي يتجه إليه موضوع السورة الرئيس من البدء للختام .

مقاصد السورة ومزاياها :

مهدت سورة الأعراف لمقاصدها ببيان عظمة الكتاب ، وجلال هدايته وقوة حجته في توضيح الدعوة وإنذار المخالفين بها .

ثم تناولت أهداف الدعوة في مكة ، وهي تقرير رسالة الإسلام وبيان أصول هذه الدعوة : توحيد الله في العبادة والتشريع ، وتقرير البعث والجزاء ، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام ، وتقرير رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجه خاص ، وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية .

وقد سلكت السورة في طريقة عرض هذه الحقائق أسلوبين بارزين أحدهما : أسلوب التذكير بالنعم والآخر : أسلوب التخويف من العذاب والنقم .

أما أسلوب التذكير بالنعم فنراه واضحا في لفتها أنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها الله له .

أما أسلوب الإنذار والتخويف فهو ظاهر في جو السورة ، وفي قصص الأنبياء فيها وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة ما دار بين الأنبياء وأقوامهم ، وسجلت السورة جزاء المكذبين بأمر الله الخارجين على دعوة رسله وهدايتهم ، وهي ظاهرة تكررت الإشارة إليها في سور القرآن المكي ؛ تحذيرا لأهل مكة أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم .

عرض إجمالي لأجزاء السورة :

سورة الأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم وهي أطول سورة في المكي ، وهي أول سورة عرضت ؛ لتفصيل في قصص الأنبياء مع أممهم ، وقد نزلت بين جملتين من السور المكية : يكثر في الجملة التي نزلت قبلها السور القصيرة ، التي تعرف بسور ( المفصل ) ( 25 ) . ويكثر في الجملة التي نزلت بعدها السور المتوسطة التي تعرف بسور ( المئين ) ( 26 ) .

وتطالعنا سورة الأعراف بالحديث عن عظمة القرآن . وتأمرنا باتباعه وتحذرنا من مخالفته . وتحثنا على العمل الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة ( 27 ) في بداية تعد براعة استهلال أو عنوان لما تشمل عليه السورة . وهي سمة غالبة في سور القرآن حيث نجد الآيات الأولى منها عنوانا معبرا عن أهدافها وسماتها .

وفي أول سورة الأعراف يقول سبحانه :

المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون . ( الأعراف : 1 – 3 ) .

ثم ساقت لنا السورة بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس . وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة . فلما أكل منها هو وزوجته .

بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة .

( الأعراف : 22 ) .

ثم وجهت إلى بني آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان .

قال تعالى : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما * إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين يؤمنون . . . ( الأعراف : 27 ) .

وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن الله – تعالى – قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا ، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل الله ، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عندما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها .

قال تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار * قل لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون . ( الأعراف : 38 ، 39 ) .

ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول :

والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . ( الأعراف : 42 ) .

وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل :

أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله .

فيجيبهم أصحاب الجنة :

إن الله حرمها على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا . . . ( الأعراف : 50 ، 51 ) .

ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها ؛ لكي يزيدنا من فضله .

وفي الربع الرابع منها وفي أواخر الثالث تحدثنا عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه . ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر والعظات ما يهدي القلوب ، ويشفي الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين .

أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه ، ومن مظاهر هذه السنن أنه – سبحانه – لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ، وأن الناس لو آمنوا واتقوا ؛ لفتح – سبحانه – عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون .

قال تعالى : تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين . ( الأعراف : 101 ، 102 ) .

ثم عقبت على ذلك ببيان أن الله تعالى قد ساق قصص السابقين ؛ للعظة والاعتبار .

ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى – عليه السلام – فقصت علينا في زهاء سبعين آية – استغرقت الربع السادس و السابع والثامن – ما دار بينه وبين فرعون من محاولات ومناقشات ، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة :

آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون . ( الأعراف : 121 ، 122 ) .

ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات ، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان .

وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم حدثتنا على التفكير والتدبير في ملكوت السموات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله ، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا .

أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، وأنكرت على المشركين شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم :

خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . ( الأعراف : 199 ) .

وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء :

واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين * إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . ( الأعراف : 205 ، 206 ) .

قصة آدم :

ذكرت قصة آدم في سورة البقرة ثم أكملت سورة الأعراف حلقات هذه القصة . وذكرت أن الله خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له ؛ إظهارا لفضله وتنويها بما يكون له من شأن بعد أن سألوا عن الحكمة في خلقه وقد ركبت فيه الشهوة والغضب وبهما يفسد في الأرض ويسفك الدماء .

وذكرت السورة موقف إبليس وإباءه السجود والامتثال لأمر الله ، كما ذكرت قصة تأثر آدم بوسوسة الشيطان ، وإغرائه إياه بالأكل من الشجرة وكيف كانت عاقبة آدم في الهبوط من الراحة والاطمئنان إلى الكد والتعب ، وإلى مكافحة عوامل الشر التي بنيت الحياة عليها وعلى ما يقابلها من عوامل الخير ، ومطالبة الإنسان بأن يقف مع جانب العقل والرسالة الإلهية اللذين يشدان أزره في التغلب على عوامل الشر .

لقد كان آدم في نعيم الجنة يتمتع بما فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ويتنقل بين أشجارها ويتقيأ ظلالها ويتفكه بثمارها ويرتوي من عذب مياهها ، وشاركته زوجه هذه المتعة ولكن الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة وأقسم لهما بأنه من الناصحين ، فلما أطاعا الشيطان وأكلا من الشجرة سلب الله عنهما نعمته وحرمهما جنته :

وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين . ( الأعراف : 22 ) .

وقد ندم آدم وحواء أشد الندم وتابا إلى الله توبة نصوحا فتاب الله عليهما وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض ؛ ليكدحا ويعملا فتعمر الأرض وتنتشر الحياة في جنباتها . وقد حذر الله آدم وذريته من الشيطان وإغرائه ، وبين سبحانه أن على المؤمن أن يلجأ إلى ربه وأن يستعين بهداه وألا يخلد إلى الهوى وألا ييأس من رحمة الله ؛ فقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه حتى يتوب إليه التائبون ويلجأ إليه المؤمنون ، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون .

والمؤمن يتسامى بغرائزه وينتصر على شهواته وينهى نفسه عن الهوى ويحملها على طريق الفلاح والاستقامة .

قال تعالى : ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ( الشمس : 7 ، 10 )

نعمة الثياب والزينة :

تحدثت سورة الأعراف عن نعم الله تعالى على بني آدم ، ومن هذه النعم نعمة الملبس الذي يستر الناس به عورتهم ، ويحملون به أنفسهم هيأ الله لهم مادته من القطن والصوف والحرير وما إليها وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وطرق صناعتها بالغزل والنسيج والخياطة . ولفت أنظارهم إلى أن تقوى الله في الانتفاع بتلك النعمة ، واستخدامها في طاعة الله وشكره . وبذلك تستر الثياب العورة ، وتكون مصدر نعمة لا نقمة .

قال تعالى : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير من آيات الله لعلهم يذكرون . ( الأعراف : 26 ) .

وفي هذا تنبيه إلى أن الحضارة الحقة ليست في كشف المفاتن ولا في إظهار العورات وإنما الحضارة الحقة في السير على سنة الله وهدي رسوله وتعاليم أنبيائه .

توسط الإسلام في شأن الزينة :

من الآيات المشهورة قوله تعالى :

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ( الأعراف : 31 ) .

ومن هذه الآية نلمح سماحة الإسلام ويسره وهو يأمر بالنظافة ويدعوا إلى التجمل والتزين ويحث على التمتع بالطيبات . وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

( إن الله نظيف يحب النظافة جميل يحب الجمال ، طيب يحب الطيبين ) .

وقد جاء الإسلام دينا وسطا فقد نهى عن التبذير والإسراف وحذر من الشح والبخل وأمر بالقصد والاعتدال قال تعالى :

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . ( الأعراف : 32 ) .

فهو سبحانه خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه وفضله على كثير من المخلوقات وسخر له الكون بما فيه من سماء مرفوعة وأرض مبسوطة وجبال راسية وبحار جارية وليل مظلم ونهار مضيء وأمره أن يستمتع بالطيبات وأن يبتعد عن المحرمات فهناك حدود بينها الله ؛ فالحلال بين والحرام بين وظاهر ، وبينهما أمور مشتبهات فيها شبهة وإثم فمن ابتعد عن الشبهات ؛ فقد سلم عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات ؛ كانت طريقا إلى الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وصدق الله العظيم :

قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق . ( الأعراف : 33 ) .

*** ***

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

آلمص .

هذه فواتح لبعض السور القرآنية ، وقد افتتح الله تعالى بعض السور بالنداء مثل : ( يا أيها المزمل ) ( يا أيها المدثر ) ( يا أيها النبي اتق الله ) ، ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله . . ) .

وبعض السور بدئت بالقسم ، مثل : ( والشمس وضحاها ) ( والضحى * والليل إذا سجى . . ) ( والتين والزيتون وطور سنين * وهذا البلد الأمين . . ) .

( والذاريات ذروا . . ) ومثل : ( والصافات صفا . . ) ( والطور ) ، ( والنجم ) ، ( والفجر ) ، ( والليل ) ، ( والعاديات ) ، ( والعصر ) وبعض السور بدئت بالثناء وإثبات الحمد لله .

كما في سورة الفاتحة ، ( الحمد لله رب العالمين ) وكما في سورة الأنعام : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وكما في سورة الكهف : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب . . ) .

حروف المعجم :

افتتح الله تعالى بعض السور القرآنية بالحروف المقطعة وهي حروف المعجم .

فبعض السور بدأ بحرف واحد مثل ن ، ق ، ص .

وبعض السور بدأ بحرفين مثل : حم ، طه ، يس .

وبعض السور بدأ بثلاثة أحرف مثل : ألم ، طسم ، الر .

وبعض السور بدأ بأربعة أحرف مثل المص ، المر .

وبعض السور بدأ بخمسة أحرف مثل : حم عسق ، كهيعص .

وليس لهذه الحروف معان مستقلة في اللغة العربية فهي لا تكون جملة مفيدة مستقلة .

وقد تكلم العلماء عن معانيها في كتاب الله تعالى ، وأشهر آراء العلماء تنقسم إلى قسمين .

القسم الأول : هي حروف استأثر الله تعالى بمعرفة معناها .

القسم الثاني : هي حروف لها معنى وتعددت آراء العلماء في تحديد هذا المعنى .

فمنهم من قال هي أسماء للسورة ، ومنهم من قال : هي حروف تشير إلى أسماء الله تعالى أو صفاته .

ومنهم من قال هي دليل على انتهاء سورة وبداية أخرى ، ومنهم من قال : حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع أنه مكون من حروف عربية يتخاطبون بها ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر وإنما تنزيل من حكيم حميد وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحروف المقطعة في فواتح السور مجموعها – بعد حذف المكرر منها – هو 14 حرفا ، ومجموع حروف المعجم في اللغة العربية هو 28 حرفا . فكأن الحق سبحانه يقول : لقد جعلت من نصف الحروف فواتح للسور في هذا الكتاب ، وتركت لكم النصف الثاني ؛ لتصنعوا منه كتابا مثله إن استطعتم .

ولاحظ أصحاب هذا الرأي أن فواتح السور حوت من كل جنس من الحروف نصفه ، فقد حوت نصف الحروف المهموسة ، ونصف الحروف المجهورة ، ونصف الشديدة ، ونصف الرخوة ، ونصف المطبقة ، ونصف المنفتحة ، وهو لون آخر من ألوان الإعجاز لهذا الكتاب الكريم .

رجوع إلى القرآن الكريم :

وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم ، وتتبعنا هذه السور الكريمة ، التي بدئت بحروف الهجاء ؛ رأينا أنها في الأعم تحدثت عن نزول القرآن الكريم وإعجازه ، فدل ذلك على أن هذه الحروف قد ذكرت في بداية هذه السور ؛ إشارة إلى التحدي والإعجاز .

اقرأ إن شئت : ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه . البقرة .

آلم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق . . . آل عمران .

آلمص * كتاب أنزل إليك . . . الأعراف .

آلر تلك آيات الكتاب الحكيم . يونس .

آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . هود .

آلر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . يوسف .

المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق . الرعد .

الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . . إبراهيم .

الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين . الحجر .

طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . طه .

طسم * تلك آيات الكتاب المبين . الشعراء .

طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . القصص .

طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين . النمل .

آلم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين . لقمان .

ص والقرآن ذي الذكر . ص .

حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر .

حم * تنزيل من الرحمن الرحيم . فصلت .

حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . الزخرف .

حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . الدخان .

ق والقرآن المجيد . ق .

أسباب النزول :

وإذا نظرنا إلى الأسباب العامة لنزول هذه الآيات ، وإلى الجو الذي نزلت فيه رأينا أنها كلها سور مكية ، ما عدا البقرة وآل عمران وكلها نزلت تجادل كفار مكة وتصرفهم عن عنادهم ، وتأخذ بأيديهم وألبابهم إلى مواطن الإعجاز في هذا الكتاب الخالد الذي أنزله الله على نبيه ؛ هداية لهم ونورا لحياتهم ونظاما لسلوكهم ، ولكنهم صموا آذانهم عن سماعه وقالوا : أساطير الأولين ، وادعوا أنه حديث مفترى ، وأنهم لو شاءوا لقالوا مثله ، إلى غير ذلك مما كانوا يحاولون به صرف الناس عن القرآن والصد عنه ، فبدئت هذه السور بهذا الأسلوب ؛ تأثيرا في قلوبهم ولفتا لأنظارهم . ولا يخفى أن المفاجأة بالغريب الذي لم يؤلف ، لها في إرهاف الأسماع وتنبيه الأذهان ما لا يحتاج إلى بيان .

سر الإعجاز :

ولا يبعد أن يكون الإعجاز في هذه الحرف هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها .

فهي بداية للسور ، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وهي لون من التنبيه الذي يقرع الأذهان ويلفت الغافلين .

وهي مما أقسم الله به ؛ لبيان شرف القرآن وفضله .

وهي مما استأثر الله بحقيقة المراد منه ، فكل ما ذكره العلماء اجتهاد محمود ؛ لإدراك أسرارها أو حكمة الابتداء بها .

ولا يزال الله يتفضل على عباده صباح مساء بفهم كتابه واستنباط معانيه ، سئل الإمام على رضى الله عنه : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيء ؟ فقال : لا إلا فهما يعطيه الله لرجل في القرآن .

وصدق الله العظيم : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا . ( الكهف : 109 ) .

التفسير :

المص .

هذه الأحرف بداية لسورة الأعراف ، وهي مما استأثر الله تعالى بعلمه .

ويجوز أن تكون بداية للسورة ، بمثابة الجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .

أو هي حروف للتحدي والإعجاز ، أو هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، أو هي اسم خاص بسورة الأعراف والله تعالى أعلم .