الضمير في قوله { لنذيقنهم } لكفار قريش ، أعلم الله تعالى أنه يصيبهم بعذاب دون عذاب الآخرة ، واختلف المتأولون في تعيين { العذاب الأدنى } ، فقال إبراهيم النخعي ومقاتل : هم السنون التي أجاعهم الله تعالى فيها ، وقال ابن عباس وأبي بن كعب : هو مصائب الدنيا من الأمراض ونحوها وقاله ابن زيد ، وقال ابن مسعود والحسن بن علي هو القتل بالسيف كبدر وغيرها .
قال الفقيه الإمام القاضي : فيكون على هذا التأويل الراجع غير الذي يذوق بل الذي يبقى بعده{[9433]} وتختلف رتبتا ضمير الذوق مع ضمير «لعل » وقال أبيّ بن كعب أيضاً هي البطشة ، واللزام ، والدخان . وقال ابن عباس أيضاً عنى بذلك الحدود .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويتجه على هذا التأويل أن تكون في فسقة المؤمنين ، وقال مجاهد : عنى بذلك عذاب القبر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال عز وجل {ولنذيقنهم} يعني كفار مكة {من العذاب الأدنى} يعني الجوع الذي أصابهم في السنين السبع بمكة... عقوبة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
{دون العذاب الأكبر} القتل ببدر، وهو أعظم من العذاب الذي أصابهم من الجوع.
{لعلهم} لكي {يرجعون} من الكفر إلى الإيمان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى العذاب الأدنى، الذي وعد الله أن يذيقه هؤلاء الفسقة؛ فقال بعضهم: ذلك مصائب الدنيا في الأنفس والأموال... عن ابن عباس "وَلَنُذِيقَنّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى "يقول: مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها مما يبتلي الله بها العباد حتى يتوبوا...
وقال آخرون: عنى بها القتل بالسيف، قال: وقتلوا يوم بدر...
وقال آخرون: عنى بذلك سنون أصابتهم...
وقال آخرون: عنى بذلك: عذاب القبر...
وقال آخرون: ذلك عذاب الدنيا...
وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذّبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب: هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدّة من مجاعة، أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكره، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذّبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل والجوع والشدائد والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم.
وقوله: "دُونَ العَذَاب الأكْبَرِ" يقول: قبل العذاب الأكبر، وذلك عذاب يوم القيامة... وقوله: "لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ" يقول: كي يرجعوا ويتوبوا بتعذيبهم العذاب الأدنى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أما عذاب الدنيا لهم فهو عذاب عنادهم وما يكون منهم من الجنايات في حال كفرهم، يعذبون في الدنيا ليذكرهم ذلك العذاب في الآخرة العذاب الدائم ليمنعهم ما به يعذبون في الدنيا عن عذاب الآخرة.
{لعلهم يرجعون} لكي يلزمهم حجة الرجوع عما هم فيه من التكذيب لئلا يقولوا {إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أقسم الله تعالى في هذه الآية، لأن اللام في قوله "ولنذيقنهم "هي التي يتلقى بها القسم، وكذلك النون الثقيلة، بأنه يذيق هؤلاء الفساق الذين تقدم وصفهم العذاب الأدنى بعض ما يستحقونه.
ما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر؟
فنقول حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما: أنه قريب والآخر أنه قليل صغير وحصل في عذاب الآخرة أيضا أمران أحدهما: أنه بعيد والآخر أنه عظيم كثير، لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح للتخويف به، فإن العذاب العاجل وإن كان قليلا قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا.
قوله تعالى: {لعلهم يرجعون} لعل هذه الترجي، والله تعالى محال ذلك عليه فما الحكمة فيه؟ نقول فيه وجهان أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله تعالى: {إنا نسيناكم} يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا، فكذلك ههنا نذيقهم على الوجه الذي يفعل بالراجي من التدريج، وثانيهما: معناه نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل لعلهم يرجعون بسببه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان في هذه الدار، لأن نفوس البشر مطبوعة على العجلة، بشرهم بذلك على وجه يشمل عذاب القبر، فقال مؤكداً له لما عندهم من الإنكار لعذاب ما بعد الموت وللإصابة في الدنيا بما لهم من الكثرة والقوة: {ولنذيقنهم} أي أجمعين بالمباشرة والتسبيب، بما لنا من العظمة التي تتلاشى عندها كثرتهم وقوتهم.
{لعلهم يرجعون} وقد كان ذلك، رجع كثير منهم خوفاً من السيف، فلما رأوا محاسن الإسلام كانوا من أشد الناس فيه رغبة وله حباً.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات في الدنيا؛ لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا، فقال: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى؛ فالله سبحانه و تعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب. فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض (لعلهم يرجعون).. وتستيقظ فطرتهم، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب. ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذين رأيناه في مشهدهم الأليم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {لعلهم يرجعون} استئناف بياني لحكمة إذاقتهم العذاب الأدنى في الدنيا بأنه لرجاء رجوعهم، أي رجوعهم عن الكفر بالإيمان. والمراد: رجوع من يمكن رجوعه وهم الأحياء منهم.
ووصف العذاب في الآخرة بأنه العذاب الأكبر، لأنه العذاب المحيط الذي لا مهرب منه ولا ملجأ.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ... لعل تفيد الرجاء المحقق إن كان الفعل من الله عز وجل، أما الرجاء هنا فرجاء في العبد الذي يملك الاختيار، لذلك رجع منهم البعض، ولم يرجع الآخرون.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلى عبد بالعذاب الخالد أبداً، ولذلك يستخدم كلّ وسائل التوعية لنجاته، فيرسل الأنبياء، وينزل الكتب السماوية، ينعم ويبتلي بالمصائب، وإذا لم تنفع أيّة وسيلة منها فليس إلاّ نار الجحيم.
التعبير ب (لعلّ) في جملة (لعلّهم يرجعون) بسبب أنّ الإحساس بالعقوبات التحذيرية ليس علّة تامّة للوعي واليقظة، بل هو جزء العلّة، ويحتاج إلى أرضيّة مهيّأة، وبدون هذا الشرط لا يحقّق النتيجة المطلوبة، وكلمة (لعلّ) إشارة إلى هذه الحقيقة. وليس في هذه الآية فحسب، بل اُشير في آيات اُخرى من القرآن إلى هذه الحقيقة، ومن جملتها في الآية (94) من سورة الأعراف (وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون).