البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (21)

و { العذاب الأدنى } ، قال أبيّ ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال .

وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ، نحو يوم بدر .

وقال مجاهد : القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر .

وقال النخعي ، ومقاتل : هو السنون التي أجاعهم الله فيها .

وقال ابن عباس أيضاً : هو الحدود .

وقال أبيّ أيضاً : هو البطشة واللزام والدخان .

و { العذاب الأكبر } ، قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة .

وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار .

وقيل : هو القتل والسبي والأسر .

وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف .

{ لعلهم يرجعون } ، قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب .

وقال أبو العالية : لعلهم يتوبون .

وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان .

وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله : { فارجعنا نعمل صالحاً } .

وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } انتهى .

ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر .

لكن الأدنى يتضمن الأصغر ، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ، وهو العذاب العاجل .

والأكبر يتضمن الأبعد ، لأنه واقع في الآخرة ، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف .

وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة ؟ ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر ؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي ؛ وأما أفعال عباده ، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو لا يختارها ، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالاً على عجزك .

انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة ، وقد ردّ عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام .