السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (21)

ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان قال تعالى : { ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى } أي : عذاب الدنيا ، قال الحسن : هو مصائب الدنيا وأسقامها وقال عكرمة : الجوع بمكة تسع سنين أكلوا فيها الجيف والعظام والكلاب ، وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر { دون العذاب الأكبر } وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة ، فإن قيل : ما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر ، والأدنى إنما هو في مقابلة الأقصى والأكبر إنما هو في مقابلة الأصغر .

أجيب : بأنه حصل في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب ، والآخر : أنه قليل صغير ، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران : أحدهما : أنه بعيد ، والآخر : أنه عظيم كبير ، لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح للتخويف ، فإن العذاب الآجل وإن كان قليلاً فلا يحترز عنه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلاً ، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل .

وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد ؛ لما ذكر . فقال في عذاب الدنيا : العذاب الأدنى ليحترز العاقل ولو قال تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان ليحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً ، وقال في عذاب الآخرة : الأكبر لذلك المعنى ، ولو قال : من العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه من الكبر { لعلهم يرجعون } إلى الإيمان أي : من بقي منهم بعد بدر ، فإن قيل : ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال ، أجيب بوجهين : أحدهما : معناه لنذيقنهم إذاقة الراجي كقوله تعالى { إنا نسيناكم } يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً كذلك هنا ، والثاني : نذيقنهم العذاب ، إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه .