قوله تعالى : { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة ، يقول : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة ، ( إن أرضي ) يعني المدينة واسعة آمنة . قال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة . وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة . وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة . وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة ، وقالوا : نخشى ، إن هاجرنا ، من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج . وقال مطرف بن عبد الله : أرضي واسعة أي : رزقي لكم واسع فاخرجوا .
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين ، إلى أرض الله الواسعة ، حيث يمكن إقامة الدين ، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم ؛ ولهذا قال : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّةُ بن الوليد ، حدثني جُبَيْر بن عمرو القرشي ، حدثني أبو سعد الأنصاري ، عن أبي يحيى مولى{[22667]} الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم " {[22668]} .
ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ، ليأمنوا ، على دينهم هناك ، فوجدوا هناك خير المنزلين ، أصحمة النجاشي ملك الحبشة ، رحمه الله ، آواهم وأيدهم بنصره ، وجعلهم شُيُوما ببلاده . ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة{[22669]}
استئناف ابتدائي وقع اعتراضاً بين الجملتين المتعاطفتين : جملة : { والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } [ العنكبوت : 52 ] ، وجملة : { والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهم من الجنة غُرفاً } [ العنكبوت : 58 ] الآية . وهذا أمر بالهجرة من دار الكفر . ومناسبته لما قبله أن الله لما ذكر عناد المشركين في تصديق القرآن وذكر إيمان أهل الكتاب به آذن المؤمنين من أهل مكة أن يخرجوا من دار المكذبين إلى دار الذين يصدقون بالقرآن وهم أهل المدينة فإنهم يومئذ ما بين مسلمين وبين يهود فيكون المؤمنون في جوارهم آمنين من الفتن يعبدون ربهم غير مفتونين . وقد كان فريق من أهل مكة مستضعفين قد آمنوا بقلوبهم ولم يستطيعوا إظهار إيمانهم خوفاً من المشركين مثل الحارث بن ربيعة بن الأسود كما تقدم عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول ءامنا بالله } في أول هذه السورة [ العنكبوت : 10 ] ، وكان لهم العذر حين كانوا لا يجدون ملجأ سالماً من أهل الشرك ، وكان فريق من المسلمين استطاعوا الهجرة إلى الحبشة من قبل ، فلما أسلم أهل المدينة زال عذر المؤمنين المستضعفين إذ أصبح في استطاعتهم أن يهاجروا إلى المدينة فلذلك قال الله تعالى : { إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } . فقوله : { إن أرضي واسعة } كلام مستعمل مجازاً مركباً في التذكير بأن في الأرض بلاداً يستطيع المسلم أن يقطنها آمناً ، فهو كقول إياس بن قبيصة الطائي :
ألم ترَ أن الأرض رحب فسيحة *** فهل تعجزني بقعة من بقاعها
ألا تراه كيف فرعَ على كونها رحباً قولَه : فهل تعجزني بقعة . وكذلك في الآية فرع على كونها واسعة الأمر بعبادة الله وحده للخروج مما كان يفتن به المستضعفون من المؤمنين إذ يُكرهون على عبادة الأصنام كما تقدم في قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] .
فالمعنى : أن أرضي التي تأمنون فيها من أهل الشرك واسعة ، وهي المدينة والقرى المجاورة لها مثل خيبر والنضير وقريظة وقينقاع ، وما صارت كلها مأمناً إلا بعد أن أسلم أهل المدينة لأن تلك القرى أحلاف لأهل المدينة من الأوس والخزرج .
وأشعر قوله : { فإياي فاعبدون } أن علة الأمر لهم بالهجرة هي تمكينهم من إظهار التوحيد وإقامة الدين . وهذا هو المعيار في وجوب الهجرة من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه وتجري عليه فيه أحكام غير إسلامية . والنداء بعنوان التعريف بالإضافة لتشريف المضاف . ومصطلح القرآن أن ( عباد ) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة فالمراد بهم المؤمنون غالباً إلا إذا قامت قرينة كقوله : { أأنتم أضْلَلْتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] ، وعليه فالوصف ب { الذين ءامنوا } لما في الموصول من الدلالة على أنهم آمنوا بالله حقاً ولكنهم فتنوا إلى حد الإكراه على إظهار الكفر .
والفاء في قوله : { فإياي } فاء التفريع والفاء في قوله : { فاعبدون } إما مؤكدة للفاء الأولى للدلالة على تحقيق التفريع في الفعل وفي معموله ، أي فلا تعبدوا غيري فاعبدون ؛ وإما مؤذنة بمحذوف هو ناصب ضمير المتكلم تأكيداً للعبادة . والتقدير : وإياي اعبدوا فاعبدون ، وهو أنسب بدلالة التقديم على الاختصاص لأنه لما أفاد الأمر بتخصيصه بالعبادة كان ذكر الفاء علامة تقدير على تقدير فعل محذوف قصد من تقديره التأكيد ، وقد تقدم في قوله تعالى : { وإياي فارهبون } في أوائل سورة [ البقرة : 40 ] .
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفاً ، وللرعاية على الفاصلة . ونظائره كثيرة .