روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

{ يا عبادي الذين ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون } نزلت على ما روي عن مقاتل . والكلبي في المستضعفين من المؤمنين بمكة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال : تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك ، وروي هذا عن ابن جبير . وعطاء . ومجاهد . ومالك بن أنس ، وقال مطرف بن الشخير : إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض ، وعلى القولين فالمراد بالأرض الأرض المعروفة ، وعن الجبائي أن الآية عدة منه عز وجل بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة ، والمعول عليه ما تقدم ، والفاء في { فإياي } فاء التسبب عن قوله تعالى : { إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ } كما تقول : إن زيداً أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت : إنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه ، و { إياي } معمول لفعل محذوف يفسره المذكور ، ولا يجوز أن يكون معمولاً له لاشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول ، والفاء في { أَنَاْ فاعبدون } هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائماً مقامه لفظاً وأدخل الفاء عليه إذ لا بد منها للدلالة على الجزاء ، ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضاً عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر ؛ وأيضاً ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه ، ولزم أن يقدر الفعل المحذوف العامل في { إياي } مؤخراً لئلا يفوت التعويض عن فعل الشرط مع إفادة ذلك معنى الاختصاص والإخلاص ، فالمعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، وجعل الشرط إن لم تخلصوا لدلالة الجواب المذكور عليه ، ولا منع من أن تكون الفاء الأولى واقعة في جواب شرط آخر ترشيحاً للسببية على معنى أن أرضي واسعة وإذا كان كذلك فإن لم تخلصوا لي الخ ، وقيل : الفاء الأولى جواب شرط مقدر وأما الثانية فتكرير ليوافق المفسر المفسر ، فيقال حينئذٍ : المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، وتكون جملة الشرط المقدرة أعني إن لم تخلصوا الخ مستأنفة عرية عن الفاء ، وما تقدم أبعد مغزى . وجعل بعض المحققين الفاء الثانية لعطف ما بعدها على المقدر العامل في { إياي } قصداً لنحو الاستيعاب كما في خذ الأحسن فالأحسن . وتعقب بأنه حينئذٍ لا يصلح المذكور مفسراً لعدم جوام تخلل العاطف بين مفسر ومفسر البتة ، وأما ما ذكره الإمام السكاكي في قوله تعالى : { وَاحِدٌ فإياي فارهبون } من أن الفاء عاطفة والتقدير فإياي ارهبوا فارهبون فإنه أراد به أنها في الأصل كذلك لا في الحال على ما حققه صاحب الكشف ، هذا وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وقد ذكرنا نبذة منه في أوائل تفسير سورة البقرة فراجعه مع ما هنا وتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .

ومن باب الإشارة : { يا عبادي الذين ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون } [ العنكبوت : 6 5 ] قال سهل : إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين ، وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة ، وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية ، وإليه الإشارة بما أخرجه الطبراني والقضاعي ، والشيرازي في الألقاب ، والخطيب ، وابن النجار ، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سافروا تصحوا وتغنموا كل نفس ذائقة الموت فلا يمنعنكم خوف الموت من السفر »