تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

الآية 56 وقوله تعالى : { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } في الآية بشارة ونذارة .

أما البشارة فقوله : { إن أرضي واسعة } وعد لهم السعة في المكان المنتقل إليه والمتحول كما كان لهم في مقامهم .

والنذارة والتحذير ، هي قوله : { إن أرضي واسعة } فلا تقيموا في أرضكم .

ثم الأمر بالخروج والهجرة عن أرضهم إلى أخرى يخرّج على وجهين :

أحدهما : لما لا يقدرون على إظهار دين الله خوفا على أنفسهم من أولئك الكفرة ، فأمروا بالخروج والهجرة عنها إلى أرض ، يقدرون على إظهاره والقيام به .

والثاني : أن كانوا يقدرون على إظهار دينهم . لكنهم لا يقدرون القيام على تغيير المناكير عليهم . والأمر بالخروج منها إلى أرض ليس بها مناكير ، وإن كانت بها ، فيقدرون على تغييرها والأمر بالمعروف فيها .

في مثل هذا جائز أن يؤمر الناس بالتحول من أرض إلى أخرى ، إذا لم يقدروا على تغيير المنكر ودفعه ، وليسوا كالرسل لأن سائر الناس إذا كثر سماعهم المنكر يخف( {[15836]} ) ذلك على قلوبهم ، وتميل إليه القلوب ، وتسكن ، وتطمئن ، فيؤمرون بالخروج عنها والتحول إلى أخرى لئلا تميل ، وتسكن إليه قلوبهم .

وأما الرسل ، وإن كثر سماعهم المنكر فإن قلوبهم لا تميل ، ولا تلين ، ولا تسكن إليه أبدا . بل تزداد له شدة وصلابة في ذلك وبعدا عن قلوبهم . لذلك اختلف أمر الرسل وغيرهم( {[15837]} ) لا يؤمرون بالخروج ، ولا يؤذن لهم لما هم إنما بعثوا إلى أهل الكفر والمنكر ليدعوهم إلى دين الله ، لا يحتمل أن يؤذن لهم بالخروج والهجرة إلى أخرى ، وهم إليهم بعثوا ليدعوهم على دين الله .

فقوله : { إن أرضي واسعة } هو ما ذكرنا : أمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ، ولا يمنعهم عن ذلك خوف ضيق العيش في غيرها( {[15838]} ) لما يعزلون عن أموالهم وحرفهم وأهل قرابتهم ومعونتهم لما وعد لهم ، جل وعلا ، والتوسيع عليهم ، لو خرجوا ، أو هربوا إشفاقا على دينهم .

وكذلك روي عن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من فر بدينه من أرض إلى أرض أخرى ، وإن كانت شبرا ، أوجبت له الجنة ، ويبعث مع أبيه إبراهيم ونبيه محمد ) [ القرطبي في تفسيره : 5/297 ] أو نحوه من الكلام .

وعلى مثل ذلك جاءت الآثار من السلف في تأويل الآية : ( إذا دعيتم إلى المعاصي فاذهبوا( {[15839]} ) في الأرض فإن أرض الله واسعة ) [ بنحوه الطبري في تفسيره : 21/9 ] .

وقال بعضهم : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاهربوا إلى أخرى فإن أرض الله واسعة . وهو ما ذكرنا : أمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ، ووعد لهم السعة والحسنة في الدنيا ، وفي الآخرة أعظم منها ، وهو ما قال : { والذين هاجروا /408-أ/ في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة اكبر لو كانوا يعلمون } [ النحل : 41 ] .

وقال في هذه الآية : { إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } أي إن أرضي واسعة ، فإن منعتم عن عبادتي في الأرض فاخرجوا منها إلى أخرى فاعبدوني ، ولا تعبدوا غيري { إن أرضي واسعة } فلا عذر لكم بالمقام في أرض تمنعون عن عبادتي وإظهار ديني { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون } [ النساء : 98 ] عند ربهم بما فيهم من الضعف لترك الخروج والمقام بين أظهرهم وكتمان الإيمان والعبادة سرا ، وإن لم يقدروا على إظهاره . فأما من كانت له حيلة الخروج فلم يعذره .


[15836]:من م، في الأصل: يخفف.
[15837]:أدرج بعدها في الأصل وم: أو أن يكون.
[15838]:في الأصل وم: غيره.
[15839]:في م: فاهربوا.