معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

قوله تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } ، لا تختلفوا

قوله تعالى : { فتفشلوا } ، أي : تجبنوا وتضعفوا .

قوله تعالى : { وتذهب ريحكم } ، قال مجاهد : نصرتكم ، وقال السدي : جرأتكم وجدكم . وقال مقاتل بن حيان : حدتكم ، وقال النضر بن شميل : قوتكم . وقال الأخفش : دولتكم . والريح هاهنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد ، تقول العرب : هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد ، قال قتادة : وابن زيد : هو ريح النصر ، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله عز وجل تضرب وجوه العدو ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وعن النعمان بن مقرن قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح ، وينزل النصر .

قوله تعالى : { واصبروا إن الله مع الصابرين } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الله بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، وكان كاتباً له قال : كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : ( يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ، ثم قال : اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا{[13051]} به ويتكلوا عليه ، ويسألوه النصر على أعدائهم ، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك . فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا ، وما نهاهم عنه انزجروا ، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم .

{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال ، { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

وقد كان للصحابة - رضي الله عنهم - في باب الشجاعة والائتمار بأمر{[13052]} الله ، وامتثال ما أرشدهم إليه - ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ؛ فإنهم ببركة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب{[13053]} والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبُوش وأصناف السودان والقبْط ، وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله ، وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت{[13054]} الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم ، إنه كريم وهاب .


[13051]:في د: "يستغيثوا".
[13052]:في د، ك، م: "بأوامر".
[13053]:في م: "الثغور".
[13054]:في د: "واشتهرت".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد . { فتفشلوا } جواب النهي . وقيل عطف عليه ولذلك قرئ : { وتذهب ريحكم } بالجزم ، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها . وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " . { واصبروا إن الله مع الصابرين } بالكلاءة والنصرة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

أمرهم الله بشيء يعمّ نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه ، ويسهل عليهم الأمور الأربعة ، التي أمروا بها آنفاً في قوله : { فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } وفي قوله : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } الآية . ألاَ وهو الصبر ، فقال : { واصبروا } لأنّ الصبر هو تحمّل المكروه ، وما هو شديد على النفس ، وتلك المأمورات كلّها تحتاج إلى تحمّل المكاره ، فالصبر يجمع تحمّل الشدائد والمصاعب ، ولذلك كان قوله : { واصبروا } بمنزلة التذييل .

وقوله : { إن الله مع الصابرين } إيماء إلى منفعة للصبرِ إلهيةٍ ، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالاً لأمره ، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها .

وجملة { إن الله مع الصابرين } قائمة مقام التعليل للأمر ، لأنّ حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع ، كما تقدّم في مواضع .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأطيعوا الله ورسوله} فيما أمركم به في أمر القتال، {ولا تنازعوا}، يقول: ولا تختلفوا عند القتال، {فتفشلوا} يعنى فتجبنوا، {وتذهب ريحكم}... {واصبروا} لقتال عدوكم، {إن الله مع الصابرين} يعنى في النصر للمؤمنين على الكافرين بذنوبهم وبعملهم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء. "وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا "يقول: ولا تختلفوا فتفرّقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، يقول: فتضعفوا وتجبنوا، "وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" وهذا مثل، يقال للرجل إذا كان مقبلاً عليه ما يحبه ويُسَرّ به: الريح مقبلة عليه، يعني بذلك ما يحبه... وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوّتكم وبأسكم فتضعفوا، ويدخلكم الوهن والخلل.

"وَاصْبِرُوا" يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوّكم، ولا تنهزموا عنه وتتركوه. "إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ" يقول: اصبروا فإني معكم...

عن مجاهد، قوله: "وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" قال: نصركم...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(ولا تنازعوا فتفشلوا) أي لا تنازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يأمركم به، وعما ينهاكم كقوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين) [الأنفال: 6] لأنكم إذا تنازعتم اختلفتم، فإذا اختلفتم تفرقتم، فإذا تفرقتم فشلتم، وجبنتم، فلا تنصرون، ولا تظفرون على عدوكم بل يظفر بكم عدوكم أو يقال: (ولا تنازعوا) لأنكم إذا تنازعتم تباغضتم، فيشغلكم التباغض بأنفسكم، فيبقى الجهاد مع العدو، والله أعلم.

وقوله تعالى: (ويذهب ريحكم) قال بعضهم: نصركم وظفركم، وقال بعضهم: يذهب ريح دولتكم... وفي هذه الآية تأديب من الله المؤمنين، وتعليم منه في ما ذكرنا؛ أي في أمر الحرب وأسباب القتال والمجاهدة مع العدو؛ لأنه أمرهم بالثبات، وأمرهم بذكر الله، ونهاهم عن التنازع والاختلاف، وذلك بعض ما يستعان به في الانتصار على عدوهم.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يريد بالريح القوة، وضرب الريح لها مثلاً... ويحتمل رابعاً، أن الريح الهيبة. وريح القوم هيبتهم التي تتقدمهم كتقدم الريح. ويكون معنى الكلام: فتذهب ريحكم وهيبتكم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الموافقة بين المسلمين أصلُ الدِّين. وأولُ الفساد ورأسُ الزَّلَلِ الاختلافُ. وكما تجب الموافقة في الدين والعقيدة تجب الموافقة في الرأي والعزيمة. قال تعالى في صفة الكفَّار: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]. قوله {واصْبِروا} الصبر حَبْسُ النَّفْس على الشيء، والمأمور به من الصبر ما يكون على خلاف هواك. {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} يتولى بالكافية إذا حصل منهم الثباتُ وحَسُنَ التفويضُ.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

...

.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}:

وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ هِيَ الْعُمْدَةُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا النَّصْرُ، وَيَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ، وَيُسْلِمُ مَعَهَا الْقَلْبُ، وَتَسْتَمِرُّ مَعَهَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْجَوَارِحُ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُ الْمَرْءِ كُلُّهُ بِالطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَعْدَادِهِمْ، وَبِاعْتِقَادِهِمْ؛ لَا بِأَمْدَادِهِمْ؛ فَلَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْغَلَّابِيّ. وَلِذَلِكَ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ). إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّاقَةَ فِي الطَّاعَةِ، وَالْمِنَّةَ فِي الْهِدَايَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}:

وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُوَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا الْأَفْعَالَ، وَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدَةٌ تَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ، وَقُدَرُ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا [وَأَجْرَى اللَّهُ] الْعَادَةَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا كَثُرَتْ عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ أَوْ بَقِيَتْ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ -وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ- ظَهَرَ الْمَقْدُورُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُدْرَةِ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَكَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا فَقَلِيلًا، وَكَذَلِكَ تَظْهَرُ الْمَفْعُولَاتُ بِحَسَبِ مَا يُلْقِي اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ من الطُّمَأْنِينَةِ، فَإِذَا ائْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ عَلَى الْأَمْرِ اسْتَتَبَّ وُجُودُهُ، وَاسْتَمَرَّ مَرِيرُهُ، وَإِذَا تَخَلْخَلَ الْقَلْبُ قَصُرَ عَنْ النَّظَرِ، وَضَعُفَتْ الْحَوَاسُّ عَنْ الْقَبُولِ، وَالِائْتِلَافُ طُمَأْنِينَةٌ لِلنَّفْسِ، وَقُوَّةٌ لِلْقَلْبِ، وَالِاخْتِلَافُ إضْعَافٌ لَهُ؛ فَتُضَعَّفُ الْحَوَاسُّ، فَتَقْعُدُ عَنْ الْمَطْلُوبِ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وَكَنَّى بِالرِّيحِ عَنْ اطِّرَادِ الْأَمْرِ وَمُضَائِهِ بِحُكْمِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِيهِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَيْهِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِهِ إلَى كُلِّ أَمْرٍ مُتَعَذِّرٍ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ فِي أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم قال تعالى مؤكدا لذلك: {وأطيعوا الله ورسوله} في سائر ما يأمر به، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات. ثم قال تعالى: {واصبروا إن الله مع الصابرين} والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر، فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى: {اصبروا وصابروا ورابطوا} وبين أنه تعالى مع الصابرين، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا به ويتكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك. فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم. وقد كان للصحابة -رضي الله عنهم- في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه -ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبُوش وأصناف السودان والقبْط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

والجامع لذلك كله طاعة الله ورسوله فإنها موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته، وذلك سر قول أبي الدرداء رضي الله عنه الذي رواه البخاري في باب "عمل صالح قبل القتال ": إنما تقاتلون الناس بأعمالكم؛ وهو شرع قديم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وأطيعوا الله ورسوله} أطيعوا الله في هذه الأوامر المرشدة إلى أسباب الفلاح في القتال وفي غيرها، وأطيعوا رسوله فيما يأمر به وينهى عنه من شؤون القتال وغيرها من حيث إنه هو المبين لكلام الله الذي أنزل إليه على ما يريده تعالى منه والمنفذ له بالقول والعمل والحكم، ومنه ولاية القيادة العامة في القتال، فطاعة القائد العام هي جماع النظام الذي هو ركن من أركان الظفر فكيف إذا كان القائد العام رسول الله المؤيد من لدنه بالوحي والتوفيق، والمشارك لكم في الرأي والتدبير والاستشارة في الأمور، كما ثبت لكم في هذه الغزوة ثم في غيرها. وقد كان لهم من العبرة في ذلك أن الرماة عندما خالفوا صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كر المشركون عليهم، ونالوا ما نالوا منهم، بعد أن كان لهم الظهور عليهم. وأنزل الله تعالى في استغرابهم لذلك {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران:165].

{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} هذا النهي مساوق للأمر بالثبات وكثرة الذكر وبطاعة الله والرسول ومتمم للغرض منه فإن الاختلاف والتنازع مدعاة الفشل وهو الخيبة والنكول عن إمضاء الأمر وأكبر أسبابه الضعف والجبن ولذلك فسروه هنا بهما، وأصل التنازع كالمنازعة المشاركة في النزع وهو الجذب وأخذ الشيء بشدة أو لطف كنزع الروح من الجسد، ونزع السلطان العامل من عمله، كأن كل واحد من المتنازعين يريد أن ينزع ما عند الآخر من رأي ويلقي به أو من نزع إلى الشيء نزوعا إذا مال إليه، فإن كل واحد من المتنازعين في الأمر يميل إلى غير ما يميل إليه الآخر، وهذا أظهر هنا.

وأما قوله تعالى: {وتذهب ريحكم} فمعناه تذهب قوتهم وترتخي أعصاب شدتكم فيظهر عدوكم عليكم. والريح في اللغة: الهواء المتحرك وهي مؤنثة وقد تذكر بمعنى الهواء وتستعار للقوة والغلبة إذ لا يوجد في الأجسام أقوى منها فإنها تهيج البحار وتقتلع أكبر الأشجار وتهدم الدور والقلاع، وقال الأخفش وغيره تستعار للدولة لشبهها بها في نفوذ آمرها. ويقولون هبت « رياح فلان» إذا دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد كما يقولون ركدت ريحه أو رياحه إذا ضعف أمره وولت دولته.

{واصبروا إن الله مع الصابرين} أي واصبروا على ما تكرهون من شدة وما تلاقون من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده وغير ذلك، إن الله مع الصابرين بالمعونة والتأييد، وربط الجأش والتثبيت، ومن كان الله معه فلا يغلبه شيء، فالله غالب على أمره وهو القوي العزيز الذي لا يغالب. وقد جاءت هذه الجملة في آية من سورة البقرة وهي {واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153] فيراجع تفسيرها هنالك (ج 2) بل يراجع تفسير الآية من أولها وكذا تفسير {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 153] قبلها (ج1) وهنالك تفسير كلمة الصبر ووجه الاستعانة به على مهمات الأمور كلها ولاسيما القتال.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وأما طاعة الله ورسوله، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء؛ فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).. فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم -مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع "الذات "في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة.. إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها. وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً.. والمسافة كبيرة كبيرة..

وأما الصبر. فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة.. أية معركة.. في ميدان النفس أم في ميدان القتال.

(واصبروا، إن الله مع الصابرين)..

وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وطاعة الله هي لب الاستقامة، وطهارة القلوب، وهي التي تكون بها قوة الإيمان، وقوة الإيمان دعامة الانتصار، وهي قوة الجهاد، ودعامة الصبر، وتلك عناصر الجهاد الحق في سبيل الله تعالى.حذرهم الله تعالى من ثلاثة أمور أولها: مخالفة الله ورسوله بالعمل بغير أمر الله ونهيه، والثاني: من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القائد، ومخالفة كل قائد رشيد، والأمر الثالث: من التنازع، فإن الاختلاف مضيعة الجيوش، ومهلكة الأمم.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

يتضمن أفضل وصية من الله لعباده، وهي الوصية التي تمسك بها السابقون الأولون، وشدوا عليها يد الضنين، ومهما عاد المسلمون إلى التمسك بها أعاد الله إليهم ما عودهم من النصر والفتح المبين...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإن ذلك هو الذي يحمي المسيرة من الانحراف، ويصون الخطوات من الاهتزاز، ويحقّق للإنسان الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية في التزامه بالخط المستقيم الذي يتّجه أبداً إلى رضوان الله. {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ففي الصبر قوة الموقف، ووضوح الرؤية، وسلامة الطريق، وحرية الإرادة، وبذلك يكون الموقف للحق. وإذا كان الموقف للحق، كان مع الله، وكان الله مع السائرين على الحق الثابتين عليه.