وقولهم : { أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } يعني : أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قالوا في الآية الأخرى : { لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] قال الله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم ، قال الله تعالى : { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي : إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله ونقمته سيعلمون غب ما قالوا ، وما كذبوا به يوم يُدَعّون إلى نار جهنم دَعّا .
{ أأنزل عليه الذكر من بيننا } إنكار لاختصاصه بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة كقولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وأمثال ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي .
{ بل هم في شك من ذكري } من القرآن أو الوحي لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل ، وليس في عقيدتهم ما يبتون به من قولهم { هذا ساحر كذاب } { إن هذا إلا اختلاق } . { بل لما يذوقوا عذاب } بل لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم ، والمعنى أنهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه .
ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض ، ومضمن ذلك الإنكار : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } بمعنى نحن الأشراف الأعلام ، فلم خص هذا ؟ وكيف يصح هذا ؟ فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل ، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على شهواتهم ، { بل هم في شك من ذكري } أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق ، ثم توعدهم بقوله : { بل لما يذوقوا عذاب } أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق ، أي هم لجهالتهم لا يبين لهم النظر ، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب .
يجوز أن يكون { أءُنزِلَ عليه الذكر من بيننا } من كلام عموم الكافرين المحكي بقوله : { وقال الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كذَّابٌ } [ ص : 4 ] فيكون متصلاً بقوله : { أجعَلَ الآلِهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] ويكون قوله { أءُنزلَ عليه الذكرُ } بياناً لجملة { كَذَّابٌ } [ ص : 4 ] ، لأن تقديره : هذا كذّاب إذ هو خبر ثان ل ( كان ) ، ولكونه بياناً للذي قبله لم يعطف عليه ويكون ما بينهما من قوله : { وانطلق الملأُ منهم } [ ص : 6 ] إلى قوله : { إن هذا إلا اختلاقٌ } [ ص : 7 ] اعتراضاً بين جملتي البيان .
ويجوز أن يكون من تمام كلام الملأ واستغني به عن بيان جملة { كَذَّابٌ } لأن نطق الملأ به كاففٍ في قول الآخرين بموجَبه فاستغنوا عن بيان جملة { كذابٌ } .
والاستفهام إنكاري ، ومناط الإِنكار هو الظرف { من بيننا } وهو في موضع حال من ضمير { عليه } ، فأنكروا أن يُخص محمد صلى الله عليه وسلم بالإِرسال وإنزاللِ القرآن دون غيره منهم ، وهذا هو المحكي في قوله تعالى : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] أي من مكة أو الطائف ولم يريدوا بهذا الإِنكار تجويز أصل الرسالة عن الله وإنما مرادهم استقصاء الاستبعاد فإنهم أنكروا أصل الرسالة كما اقتضاه قوله تعالى : { وعَجِبوا أن جاءَهم مُنذرٌ منهم } [ ص : 4 ] وغيره من الآيات ، وهذا الأصل الثاني من أصول كفرهم التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { أجعل الآلهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] وهو أصل إنكار بعثه رسول منهم .
{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } يجوز أن يكون هذا جواباً عن قولهم : { أءُنزِلَ عليه الذكر من بيننا } أي ليس قصدهم الطعن في اختصاصك بالرسالة ولكنهم شاكُّون في أصل إنزاله ، فتكون { بل } إضراباً إبطالياً تكذيباً لما يظهر من إنكارهم إنزال الذكر عليه من بينهم على ما تقدم ، أي إنما قصدهم الشك في أن الله يوحي إلى أحد بالرسالة ، فيكون معنى { في شَكّ من ذِكري } شكّاً من وقوعه . والشك يطلق على اليقين مجازاً مرسلاً بعلاقة الإِطلاق والتقييد فيكون كمعنى قوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون } [ الأنعام : 33 ] . ويجوز أن يكون انتقالاً من خبر عنهم إلى خبر آخر فيكون استئنافاً وتكون { بل } للإِضراب الانتقالي ، والمعنى : وهم في شك من ذكري ، أي في شك من كنه القرآن ، فمرة يقولون : افتراه ، ومرة يقولون : شعر ، ومرة : سحر ، ومرة : أساطير الأولين ، ومرة : قول كاهن . فالمراد بالشك حقيقتهُ أي التردد في العلم . وإضافة الذكر إلى ضمير المتكلم وهو الله تعالى إضافة تشريف ولتحقيق كونه من عند الله . والذكر على هذا الوجه هو عين المراد من قوله : { أءُنزل عليه الذكر } وإنما وقع التعبير عنه بالظاهر دون الضمير توصلاً إلى التنويه به بأنه من عند الله .
و { في } للظرفية المجازية ، جُعلت ملابسة الشك إياهم بمنزلة الظرف المحيط بمحويه في أنه لا يخلو منه جانب من جوانبه .
و { مِن } في قوله : { مِن ذِكري } ابتدائية لكون الشك صفة لهم ، أي نشأ لهم الشك من شأن ذكري ، أي من جانب نفي وقوعه ، أو في جانب ما يصفونه به .
{ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عذاب } أتبع ذلك الإِضراب بإضراب آخر يبين أن الذي جرّأهم على هذا الشقاق أنهم لما تأخر حلول العذاب بهم ظنوا وعيده كاذباً فأخذوا في البذاءة والاستهزاء ولو ذاقوا العذاب لألقمت أفواههم الحجر .
و { لمّا } حرف نفي بمعنى ( لم ) إلاّ أن في { لمّا } خصوصية ، وهي أنها تدلّ على المنفي بها متصل الانتفاء إلى وقت التكلم بخلاف ( لم ) فلذلك كان النفي ب { لمّا } قد يُفهم منه ترقب حصول المنفي بعد ذلك قال صاحب « الكشاف » في قوله تعالى : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } في سورة الحجرات } ( 14 ) ما في { لمّا من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ ، أي دال بطريق المفهوم الحاصل من معنى غاية النفي إلى زمن التكلم ، أي لا أضمن ما بعد ذلك ، وقد ذاقوا عذاب السيف يوم بدر بعد نزول هذه الآية بأربع سنين .
وإضافة { عذاب } إلى ياء المتكلم لاختصاصه بالله لأنه مُقدِّره وقاض به عليهم ولوقوعه على حالة غير جارية على المعتاد إذ الشأن أن يستأصل الجيش القوي الجيشَ القليل . وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً للفاصلة ، وأبقيت الكسرة دليلاً عليها وهو حذف كثير في الفواصل والشعر على نحو حذفها من المنادَى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.