قوله عز وجل : { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال أكثر المفسرين : معناه : أقسم ، و لا صلة ، وكان عيسى ابن عمر يقرأ : فلأقسم ، على التحقيق . وقيل : قوله لا : رد لما قاله الكفار في القرآن إنه سحر وشعر وكهانة ، معناه : ليس الأمر كما يقولون ، ثم استأنف القسم ، فقال :{ أقسم بمواقع النجوم } . قرأ حمزة والكسائي : بموقع على التوحيد . وقرأ الآخرون بمواقع على الجمع . قال ابن عباس : أراد نجوم القرآن ، فإنه كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقاً نجوماً . وقال جماعة من المفسرين : أراد مغارب النجوم ومساقطها . وقال عطاء بن أبي رباح : أراد منازلها . وقال الحسن : أراد انكدارها وانتثارها يوم القيامة .
قال جُوَيبر ، عن الضحاك : إن الله لا يقسم بشيء من خلقه ، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه .
وهذا القول ضعيف . والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته . ثم قال بعض المفسرين : " لا " هاهنا زائدة ، وتقديره : أقسم بمواقع النجوم . ورواه ابن جرير ، عن سعيد بن جُبَيْر . ويكون جوابه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
وقال آخرون : ليست " لا " زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسمًا به على منفي ، كقول عائشة رضي الله عنها : " لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط " وهكذا هاهنا تقدير الكلام : " لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة ، بل هو قرآن كريم " .
وقال ابن جرير : وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : { فَلا أُقْسِمُ } فليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف القسم بعد فقيل : أقسم .
واختلفوا في معنى قوله : { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ، فقال حكيم بن جُبَيْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس يعني : نجوم القرآن ؛ فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مُفَرَّقًا{[28150]} في السنين بعد . ثم قرأ ابن عباس هذه الآية .
وقال الضحاك عن ابن عباس : نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجَّمَته السَّفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، فهو قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } نجوم القرآن .
وكذا قال عِكْرِمَة ، ومجاهد ، والسُّدِّيّ ، وأبو حَزْرَة .
وقال مجاهد أيضًا : { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } في السماء ، ويقال : مطالعها ومشارقها . وكذا قال الحسن ، وقتادة ، وهو اختيار ابن جرير . وعن قتادة : مواقعها : منازلها . وعن الحسن أيضًا : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة . وقال الضحاك : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } يعني بذلك : الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مُطِروا ، قالوا : مطرنا بنوء كذا وكذا .
وقوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِع النّجُومِ فقال بعضهم : عُنِي بقوله : فَلا أُقْسِمُ : أقسم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَير فَلا أُقْسِمُ قال : أقسم .
وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : فَلا فليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد فقيل أُقسم .
وقوله : بِمَوَاقِعِ النّجُومِ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فلا أقسم بمنازل القرآن ، وقالوا : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما متفرّقة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حُصَين ، عن حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم فرق في السنين بعد . قال : وتلا ابن عباس هذه الاَية فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ قال : نزل متفرّقا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النّجُومِ قال : أنزل الله القرآن نجوما ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن عكرِمة : إن القرآن نزل جميعا ، فوضع بمواقع النجوم ، فجعل جبريل يأتي بالسورة ، وإنما نزل جميعا في ليلة القدر .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مجاهد فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ قال : هو مُحْكَم القرآن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُوم وَإنّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ قال : مستقرّ الكتاب أوّله وآخره .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا أقسم بمساقط النجوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِمَواقِعِ النّجُومِ قال في السماء ويقال مطالعها ومساقطها .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النّجُومِ : أي مساقطها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بمنازل النجوم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ قال : بمنازل النجوم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بانتثار النجوم عند قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النّجومِ قال : قال الحسن انكدارها وانتثارها يوم القيامة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فلا أقسم بمساقط النجوم ومغايبها في السماء ، وذلك أن المواقع جمع موقع ، والموقع المفعل ، من وقع يقع موقعا ، فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك ، ولذلك قلنا : هو أولى معانيه به .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة بموقع على التوحيد ، وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين بمواقع : على الجماع .
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
اختلف الناس في : «لا » ، من قوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } فقال بعض النحويين : هي زائدة والمعنى فأقسم ، وزيادتها في بعض المواضع معروف{[10927]} كقوله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب }{[10928]} [ الحديد : 29 ] وغير ذلك ، وقال سعيد بن جبير وبعض النحويين : هي نافية ، كأنه قال : { فلا } صحة لما يقوله الكفار ، ثم ابتدأ { أقسم بمواقع النجوم }{[10929]} . وقال بعض المتأولين هي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام مشبه في القسم ألا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
* فلا وأبي أعدائها لا أخونها * . . .
والمعنى : فوأبي أعدائها ، ولهذا نظائر .
وقرأ الحسن والثقفي : «فلأقسم » بغير ألف ، قال أبو الفتح ، التقدير : فلأنا أقسم{[10930]} .
وقرأ الجمهور من القراء «بمواقع » على الجمع ، وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأهل الكوفة وحمزة والكسائي : «بموقع » على الإفراد ، وهو مراد به الجمع ، ونظير هذا كثير ، ومنه قوله تعالى : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }{[10931]} [ لقمان : 19 ] جمع من حيث لكل حمار صوت مختص وأفرد من حيث الأصوات كلها نوع .
واختلف الناس في : { النجوم } هنا ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه روي أن القرآن نزل من عند الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، وقيل إلى البيت المعمور جملة واحدة ، ثم نزل بعد ذلك على محمد نجوماً مقطعة في مدة من عشرين سنة .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله : { إنه لقرآن كريم } ، وذلك أن ذكره لم يتقدم إلا على هذا التأويل ، ومن لا يتأول بهذا التأويل يقول : إن الضمير يعود على القرآن وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب }{[10932]} [ ص : 32 ] ، و { كل من عليها فان }{[10933]} [ الرحمن : 26 ] وغير ذلك . وقال جمهور كثير من المفسرين : { النجوم } هنا : الكواكب المعروفة . واختلف في موقعها ، فقال مجاهد وأبو عبيدة هي : مواقعها عند غروبها وطلوعها ، وقال قتادة : مواقعها مواضعها من السماء ، وقيل : مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت ، وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة .
تفريع على جملة { قل إن الأولين والأخرين لمجموعون } [ الواقعة : 49 ، 50 ] يُعرِب عن خطاب من الله تعالى موجه إلى المكذبين بالبعث القائلين : { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إنّا لمبعوثون } [ الواقعة : 47 ] ، انتقل به إلى التنويه بالقرآن لأنهم لما كذبوا بالبعث وكان إثباتُ البعث من أهم ما جاء به القرآن وكان مما أغراهُم بتكذيب القرآن اشتمالُه على إثبات البعث الذي عَدُّوه محالاً ، زيادة على تكذيبهم به في غير ذلك مما جاء به من إبطال شركهم وأكاذيبهم ، فلما قامت الحجة على خطئهم في تكذيبهم ، فقد تبين صدق ما أنبأهم به القرآن فثبت صدقه ولذلك تهيّأ المقام للتنويه بشأنه .
والفاء لتفريع القَسم على ما سبق من أدلة وقوع البعث فإن قوله : { قل إن الأولين والأخرين لمجموعون } [ الواقعة : 49 ، 50 ] ، إخبار بيوم البعث وإنذار لهم به وهم قد أنكروه ، ولأجل استحالته في نظرهم القاصر كذبوا القرآن وكذّبوا من جاء به ، ففرع على تحقيق وقوع البعث والإِنذار به تحقيق أن القرآن منزه عن النقائص وأنه تنزيل من الله وأن الذي جاء به مبلغ عن الله .
فتفريع القسم تفريع معنويُّ باعتبار المقسم عليه ، وهو أيضاً تفريع ذِكري باعتبار إنشاء القسم إن قالوا لكم : أقسم بمواقع النجوم .
وقد جاء تفريع القَسم على ما قبله بالفاء تفريعاً في مجرد الذكر في قول زهير :
فأقسمت بالبيت الذي طَافَ حوله *** رجال بَنَوْه من قريش وجُرهم
عقب أبيات النسِيب من معلَّقته ، وليس بين النسيب وبين ما تفرع عنه من القسم مناسبة وإنما أراد أن ما بعد الفاء هو المقصود من القصيد ، وإنما قدم له النسيب تنشيطاً للسامع وبذلك يظهر البَون في النظم بين الآية وبين بيت زهير .
و { لا أقسم } بمعنى : أقسم ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد ، وأصلها نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم .
وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم لأن الأمر واضح الثبوت ، ثم كثر هذا الاستعمال فصار مراداً تأكيد الخبر فساوى القسم بدليل قوله عقبه : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } ، وهذا الوجه الثاني هو الأنسب بما وقع من مثله في القرآن .
وعلى الوجهين فهو إدماج للتنويه بشأن ما لو كان مُقسِماً لأقسم به . وعلى الوجه الثاني يكون قوله : { وإنه لقسم } بمعنى : وإن المذكور لشيء عظيم يُقسم به المقسمون ، فإطلاق قسم عليه من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالخلق بمعنى المخلوق .
وعن سعيد بن جبير وبعض المفسرين : أنهم جعلوا ( لا ) حرفاً مستقلاً عن فعل { أقسم } واقعاً جواباً لكلام مقدر يدل عليه بعده من قوله : { إنه لقرآن كريم } ردّاً على أقوالهم في القرآن أنه شعر ، أو سحر ، أو أساطير الأولين ، أو قول كاهن ، وجعلوا قوله : { أقسم } استئنافاً .
وعليه بمعنى الكلام مع فاء التفريع أنه تفرع على ما سَطع من أدلة إمكان البعث ما يبطل قولكم في القرآن فهو ليس كما تزعمون بل هو قرآن كريم الخ .
و { مواقع النجوم } جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع ، أي محالُّ وقوعها من ثوابت وسيارة . والوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غُروبها فيكون في معنى قوله تعالى : { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى : { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } [ المعارج : 40 ] . وجعل { مواقع النجوم } بهذا المعنى مقسماً به لأن تلك المساقط في حال سقوط النجوم عندها تذكِّر بالنظام البديع المجعول لسير الكواكب كلَّ ليلة لا يختل ولا يتخلف ، وتذكِّر بعظمة الكواكب وبتداولها خِلفة بعد أخرى ، وذلك أمر عظيم يحق القسم به الراجع إلى القسم بمُبدعه .
ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإِبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم ، فالمواقع : محالُّ وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريباً من قوله : { والسماء ذات البروج } [ البروج : 1 ] .
والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها .
وذكر ( مواقع النجوم ) على كلا المعنيين تنويه بها وتعظيم لأمرها لدلالة أحوالها على دقائق حكمة الله تعالى في نظام سيرها وبدائع قدرته على تسخيرها .
ويجوز أن يكون ( مواقع ) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع .
ومن المفسرين من تأول النجوم أنها جمع نجم وهو القِسط الشيء من مال وغيره كما يقال : نجومُ الديات والغرامات وجعلوا النجوم ، أي الطوائف من الآيات التي تنزل من القرآن وهو عن ابن عباس وعكرمة فيؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى : { والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً } [ الزخرف : 2 ، 3 ] .