نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ} (75)

فثبت أن الله تعالى أرسل الآتي بهذا القرآن صلى الله عليه وسلم بالهدى وبالحق ، لا أنه آتاه كل ما ينبغي له ، فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها ، والموعظة الحسنة ، وهي الأمور المرققة للقلوب المنورة للصدور ، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق في نظم معجز موجب{[62237]} للإيمان ، فكان من سمعه ولم يؤمن لم يبق له من الممحلات إلا أن يقول : هذا البيان ليس لظهور المدعى وثبوته بل لقوة عارضة المدعي وقوته على تركيب الأدلة وصوغ{[62238]} الكلام وتصريف وجوه المقال ، وهو يعلم أنه يغلب لقوة جداله لا لظهور مقاله{[62239]} ، كما أنه ربما يقول أحد المتناظرين عند انقطاعه لخصمه : أنت تعلم أن الحق معي لكنك تستضعفني ولا تنصفني ، فحينئذ لا يبقى للخصم جواب إلا الإقسام بالإيمان التي لا مخرج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف ، وإنما يفزع{[62240]} إلى الإيمان لأنه لو أتى بدليل آخر لكان معرضاً لمثل هذا ، فيقول : وهذا غلبتني فيه لقوة جدالك وقدرتك على سوق الأدلة ببلاغة مقالك ، فلذلك كانوا إذا أفحمهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنه يريد أن يتفضل علينا فيما نعلم خلافه ، فلم يبق إلا الإقسام ، فأنزل الله أنواعاً من الأقسام بعد الدلائل العظام ، ولهذا كثرت الآيات{[62241]} في أواخر القرآن ، وفي السبع الأخيرة خاصة أكثر ، فلذلك سبب عن هذه الأدلة الرائعة والبراهين القاطعة قوله : { فلا أقسم } بإثبات " لا " النافية{[62242]} ، إما على أن يكون مؤكدة بأن ينفي{[62243]} ضد ما أثبته القسم ، فيجمع الكلام بين إثبات المعنى المخبر به ونفي ضده ، وإما على تقدير أن هذا المقام يستحق لعظمته وإنكاركم له أن يقسم عليه بأعظم من هذا على ما له من العظمة لمن له علم{[62244]} - والله أعلم .

ولما كان الكلام{[62245]} السابق في الماء الذي جعله سبحانه مجمعاً للنعم الدنيوية الظاهرة وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء على منهاج دبره وقانون أحكمه ، وجعل إنزال القرآن نجوماً مفرقة وبوارق متلالئة متألقة قال : { بمواقع النجوم * } أي بمساقط الطوائف القرآنية المنيرة النافعة المحيية للقلوب ، وبهبوطها الذي ينبني عليه ما ينبني من الآثار الجليلة وأزمان ذلك وأماكنه وأحواله ، وبمساقط الكواكب وأنوائها وأماكن ذلك وأزمانه في تدبيره على ما ترون من الصنع المحكم والفعل المتقن المقوم ، الدال بغروب الكواكب على القدرة على الطي بعد النشر والإعدام بعد الإيجاد ، وبطلوعها الذي يشاهد أنها ملجأة إليه إلجاء الساقط من علو إلى سفل لا يملك لنفسه شيئاً ، لقدرته على الإيجاد بعد الإعدام ، وبآثار الأنواء على مثل ذلك بأوضح منه - إلى غير ذلك من الدلالات التي تضيق عنها العبارات ، وتقصر دون علياها مديد الإشارات ، ولمثل هذه المعاني الجليلة والخطوب العظيمة جعل في الكلام اعتراضاً بين القسم وجوابه ، وفي الاعتراض اعتراضاً بين الموصوف وصفته تأكيداً للكلام ، وهزاً لنافذ الأفهام تنبيهاً على أن الأمر عظيم والخطب فادح جسيم ،


[62237]:- في ظ: مسقط.
[62238]:- من ظ، وفي الأصل: صدع.
[62239]:- من ظ، وفي الأصل. لمقاله.
[62240]:- من ظ، وفي الأصل: يصوع.
[62241]:- زيد من ظ.
[62242]:- من ظ، وفي الأصل: الناهية.
[62243]:- من ظ، وفي الأصل: يبقى.
[62244]:-زيد في الأصل: انتهى، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[62245]:- زيد من ظ.