اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ} (75)

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } .

قرأ العامة : «فَلاَ » لام ألف .

وفيه أوجه{[55039]} :

أحدها : أنها حرف نفي ، وأنَّ النفي بها محذوف ، وهو كلام الكافر الجاحد ، تقديره : فلا حجة لما يقول الكُفَّار ، ثم ذكر ابتداء قسماً بما ذكر .

وإليه ذهب كثير من المفسِّرين والنحويين .

قال الفرَّاء{[55040]} : «هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف [ القسم ] {[55041]} ، كما تقول : «لا والله ما كان كذا » ولا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم ، أي : ليس الأمر كما ذكر ، بل هو كذا » .

وضعِّف هذا بأن فيه حذف اسم «لا » وخبرها .

قال أبو حيَّان{[55042]} : «ولا يجوز ولا ينبغي ، فإنَّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ خبر القرآن وبحره عبد الله بن عباس .

ويبعد أن يقوله إلا بتوقيفٍ » .

الثاني : أنَّها زائدة للتأكيد . والمعنى : فأقسم ، بدليل قوله : وإنه لقسم ، ومثله في قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، والتقدير : ليعلم .

وكقوله : [ الطويل ]

فَلاَ وأبِي أعْدائِهَا لا أخُونُهَا{[55043]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثالث : أنها لام الابتداء ، والأصل : فلأقسم ، فأشبعت الفتحة ، فتولّد منها ألف .

كقوله : [ الرجز ]

أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ{[55044]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قاله أبو حيَّان{[55045]} .

واستشهد بقراءة هشام : «أفئيدة »{[55046]} .

قال شهاب الدين{[55047]} : «وهذا ضعيف جدًّا » .

واستند أيضاً لقراءة{[55048]} الحسن وعيسى : «فلأقسم » بلام واحدة .

وفي هذه القراءة تخريجان{[55049]} :

أحدهما : أن «اللام » لام الابتداء ، وبعدها مبتدأ محذوف ، والفعل خبره ، فلما حذف المبتدأ اتصلت «اللام » بخبره ، وتقديره : «فلأنا أقسم » نحو : «لزيد منطلق » .

قاله الزمخشري{[55050]} وابن جني{[55051]} .

والثاني : أنها لام القسم دخلت على الفعل الحالي ، ويجوز أن يكون القسم جواباً للقسم ، كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } [ التوبة : 107 ] ، وهو جواب لقسم مقدر ويجوز أن يكون القسم كذلك وهذا هو قول الكوفيين ، يجيزون أن يقسم على فعل الحال . والبصريون يأبونه ، ويخرجون ما يوهم ذلك على إضمار مبتدأ ، فيعود القسم على جملة اسمية .

ومنع الزمخشري أن تكون لام القسم .

قال{[55052]} : لأمرين :

أحدهما : أن حقها أن تقرن بالنون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيحٌ .

والثاني : أن «لأفعلن » في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال .

يعني أن فعل القسم إنشاء ، والإنشاء حال .

وأمَّا قوله{[55053]} : «إنَّ حقَّها أن تقرن بها النون » ، هذا مذهب البصريين أيضاً . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التَّعاقب بين اللام والنون ، نحو : «والله لأضرب زيداً » كقوله : [ الطويل ]

لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَليْكُم بُيُوتكُمْ *** ليَعْلَمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ{[55054]}

و«الله اضربن زيداً » .

كقوله : [ الكامل ]

وقَتِيلِ مُرَّة أثأَرَنَّ . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[55055]}

وقد تقدم قريب من هذه الآية في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ، ولكن هناك ما لا يمكن القول به هنا ، كما أن هنا ما لا يمكن القول به هناك ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - قريب منه في «القيامة » في قراءة ابن كثير : { لأُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَةِ } [ القيامة : 1 ] .

قال القرطبي{[55056]} : وقيل : «لا » بمعنى «ألاَ » للتنبيه ، كقوله : [ الطويل ]

ألا عِمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[55057]}

ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، فإنه ليس بشعر ، ولا سحر ، ولا كهانة كما زعموا .

وقرأ العامة : «بمواقع » جمعاً .

والأخوان{[55058]} : «بموقع » مفرداً بمعنى الجمع ؛ لأنه مصدر فوحَّد .

ومواقعها : مساقطها ومغاربها . قاله قتادة وغيره{[55059]} .

وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة{[55060]} .

وقيل : المراد نجوم القرآن . قاله ابن عباس والسدي ، ويؤيده : «وإنه لقسم » و«إنَّه لقُرآن كريم » .

وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها{[55061]} .

وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت أهل الجاهلية ، تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا{[55062]} .

وقال الماوردي : ويكون قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } مستعملاً على الحقيقة من نفي القسم .

وقال القشيري : هو قسم ، ولله أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله - تعالى - وصفاته القديمة .

قال القرطبي{[55063]} : «ويدلُّ على هذا قراءة الحسن : فلأقسم » .


[55039]:ينظر: الدر المصون 6/266.
[55040]:القرطبي 17/144، 145.
[55041]:سقط من ب.
[55042]:البحر المحيط 8/212، وقد عقب عليه السمين الحلبي بقوله: ولا ينبغي.. الخ، والدليل على أن بقية المنقول عن أبي حيان أنه من قول السمين، ما رأيناه في كلام أبي حيان حيث قال: ثم ابتدأ "أقسم". قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة، ولا يجوز.. فنقل المصنف هنا كلام السمين، وظنه بقية كلام أبي حيان.
[55043]:عجر بيت لأحمد بن أبي فنن وصدره: فإن تك ليلى استودعتني أمانة *** ...................... ينظر سمط اللالئ للبكري 1/245، والبحر المحيط 8/212 والدر المصون 6/266.
[55044]:تقدم.
[55045]:البحر المحيط 8/212.
[55046]:سورة إبراهيم. آية (37).
[55047]:الدر المصون 6/266.
[55048]:ينظر: المحرر الوجيز 5/250، والبحر المحيط 8/212، والكشاف 4/468.
[55049]:ينظر: الدر المصون 6/266.
[55050]:ينظر: الكشاف 4/468.
[55051]:ينظر: المحتسب 2/309.
[55052]:الكشاف 4/468.
[55053]:ينظر: الدر المصون 6/266.
[55054]:تقدم.
[55055]:البيت لعامر بن الطفيل وتمامه: ..............فإنـــه *** فرغ وإن أخاكم لــم يثأر ويروى لم يقعد مكانه لم يثأر.
[55056]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 17/145.
[55057]:ينظر ديوانه ص 56، وخزانة الأدب 1/6، 65، والدرر 4/226، وشرح شواهد المغني 2/5571، ومغني اللبيب 2/645، ورصف المباني ص 240، والهمع 2/42، والمفضليات 364، والأصمعيات 252، وابن الشجري 1/269، 2/221، والضرائر لابن عصفور ص 157، والإيضاح الشعري للفارسي ص 65، وهو صدر بيت لامرئ القيس وعجزه .......................... *** وهل يعمن من كان في العصر الخالي
[55058]:ينظر: السبعة 624، والحجة 6/262، وإعراب القراءات 2/247، وحجة القراءات 697، والعنوان 185، وشرح الطيبة 6/37، وشرح شعلة 597، وإتحاف 2/517.
[55059]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/658) عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/231) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
[55060]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/658) وزاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" (6/231) إلى عبد بن حميد.
[55061]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/658) عن قتادة مثله وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/231) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق. وذكره البغوي في "تفسيره" (4/289) عن عطاء.
[55062]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/145).
[55063]:17/145، وقد تقدمت القراءة.