معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ} (82)

قوله تعالى : { فلما جاء أمرنا } عذابنا ، { جعلنا عاليها سافلها } ، وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات وهي خمس مدائن ، وفيها أربعمائة ألف . وقيل : أربعة آلاف ألف ، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ، ونباح الكلاب ، فلم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم ، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها . { وأمطرنا عليها } ، أي على شذاذها ومسافريها . وقيل : بعدما قلبها أمطر عليها ، { حجارة من سجيل } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : ( سنك وكل ) فارسي معرب . وقال قتادة و عكرمة : السجيل الطين ، دليله قوله عز وجل : { لنرسل عليهم حجارة من طين } [ الذاريات-33 ] . قال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين . وقال الحسن : كان أصل الحجارة طينا فشددت . وقال الضحاك : يعنى الآجر . وقيل : السجيل اسم السماء الدنيا . وقيل : هو جبال في السماء ، قال الله تعالى : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } [ النور-43 ] .

قوله تعالى : { منضود } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : متتابع ، يتبع بعضها بعضا ، مفعول من النضد ، وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ} (82)

يقول تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } وكان ذلك عند طلوع الشمس ، { جَعَلْنَا عَالِيَهَا } وهي [ قريتهم العظيمة وهي ]{[14826]} سَدُوم [ ومعاملتها ]{[14827]} { سَافِلَهَا } كقوله{[14828]} { [ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ] فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } [ النجم : 53 ، 54 ]{[14829]} أي : أمطرنا{[14830]} عليها حجارة من " سجيل " وهي بالفارسية : حجارة من طين ، قاله ابن عباس وغيره .

وقال بعضهم : أي من " سنك " وهو الحجر ، و " كل " {[14831]} وهو الطين ، وقد قال في الآية الأخرى : { حِجَارَةً مِنْ طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] أي : مستحجرة قوية شديدة . وقال بعضهم : مشوية ، [ وقال بعضهم : مطبوخة قوية صلبة ]{[14832]} وقال البخاري . " سِجيل " : الشديد الكبير . سجيل وسجين واحد ، اللام والنون أختان ، وقال تميم بن مُقبِل :

وَرَجْلَةٍ يَضْربُون البَيْضَ ضَاحِيةٌ *** ضَرْبًا تواصَت به الأبطال{[14833]} سِجّينا{[14834]}

وقوله : { مَنْضُودٍ } قال بعضهم : منضودة في السماء ، أي : معدة لذلك .

وقال آخرون : { مَنْضُودٍ } أي : يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم .

وقوله : { مُسَوَّمَةً } أي مُعْلمَة مختومة ، عليها أسماء أصحابها ، كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه .

وقال قتادة وعِكْرِمة : { مُسَوَّمَةً } [ أي ]{[14835]} مُطَوّقة ، بها نَضْحٌ من حُمّرٍة .

وذكروا أنها نزلت على أهل البلد ، وعلى المتفرقين في القرى مما حولها ، فبينا أحدهم يكون عند{[14836]} الناس يتحدّث ، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس ، فدّمره ، فتتبعهم{[14837]} الحجارة من سائر البلاد ، حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد .

وقال مجاهد : أخذ جبريلُ قوم لوط من سَرْحهم ودورهم ، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نُباح كلابهم ثم أكفأهم{[14838]} [ وقال ]{[14839]} وكان حملهم على خوافي{[14840]} جناحه الأيمن . قال : ولما قلبها كان أول ما سقط منها شُذانها{[14841]} .

وقال قتادة : بلغنا أن جبريل أخذ بعروة{[14842]} القرية الوسطى ، ثم ألوَى بها إلى جو السماء ، حتى سمع أهل السماء{[14843]} ضواغي كلابهم ، ثم دمر بعضها على بعض ، ثم أتبع شُذّاذ القوم سُخْرًا{[14844]} - قال : وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى ، في كل قرية مائة ألف - وفي رواية : [ كانوا ]{[14845]} ثلاث قرى ، الكبرى منها سَدُوم . قال : وبلغنا أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يشرف على سدوم ، ويقول : سدوم ، يومٌ ، ما لَك ؟ .

وفي رواية عن قتادة وغيره : بلغنا أن جبريل عليه السلام ، لما أصبح نشر جناحه ، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصُورها ودوابها وحجارتها وشجرها ، وجميع ما فيها ، فضمها في جناحه ، فحواها وطواها في جوف جناحه ، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا ، حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب ، وكانوا أربعة آلاف ألف ، ثم قلبها ، فأرسلها إلى الأرض منكوسة ، وَدَمْدَم بعضها على بعض ، فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعها حجارة من سجيل .

وقال محمد بن كعب القُرَظي : كانت قرى قوم لوط خمس قريات : " سدوم " ، وهي العظمى ، و " صعبة " {[14846]} و " صعوة " و " عثرة " {[14847]} و " دوما " ، احتملها جبريل بجناحه ، ثم صعد بها ، حتى إنّ أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها ، وأصوات دجاجها ، ثم كفأها على وجهها ، ثم أتبعها الله بالحجارة ، يقول الله تعالى : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } {[14848]} فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات .

وقال السدي : لما أصبح قوم لوط ، نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين ، فحملها حتى بلغ بها السماء ، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم ، وأصوات ديوكهم ، ثم قلبها فقتلهم ، فذلك قوله{[14849]} { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } [ النجم : 53 ] ، ومن لم يمت حين سقط للأرض ، أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ، ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى ، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله ، فذلك قوله{[14850]} عز وجل : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : في القرى حجارة من سجيل . هكذا قال السدي .

وقوله : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } أي : وما هذه النقمة ممن تَشَبَّه بهم في ظلمهم ، ببعيد{[14851]} عنه .

وقد ورد في الحديث المروي في السنن{[14852]} عن ابن عباس مرفوعًا{[14853]} " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به " {[14854]} .

وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل ، سواء كان محصنًا أو غير{[14855]} محصن ، عملا بهذا الحديث .

وذهب الإمام أبو حنيفة [ رحمه الله إلى ]{[14856]} أنه يلقى من شاهق ، ويُتبَع بالحجارة ، كما فعل الله بقوم لوط ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .


[14826]:- زيادة من ت ، أ.
[14827]:- زيادة من ت ، أ.
[14828]:- في ت : "كما قال تعالى".
[14829]:- زيادة من ت ، أ.
[14830]:- في ت ، أ : "أمطر".
[14831]:- في ت : "وحل" ، وفي أ : "وجيل".
[14832]:- زيادة من ت ، أ.
[14833]:- في أ : "الأباطيل".
[14834]:- صحيح البخاري (8/352) "فتح".
[14835]:- زيادة من ت ، أ.
[14836]:- في ت ، أ : "بين".
[14837]:- في ت : "فيتبعهم".
[14838]:- في ت ، أ : "أكفأها".
[14839]:- زيادة من ت.
[14840]:- في ت ، أ : "حوافي".
[14841]:- في ت : "شرفاتها".
[14842]:- في ت : "بعزوة".
[14843]:- في ت ، أ : "سمع الملائكة".
[14844]:- في ت ، أ : "صخرا".
[14845]:- زيادة من ت ، أ.
[14846]:- في ت ، أ : "صبعة".
[14847]:- في ت ، أ : "وعمرة".
[14848]:- في ت ، أ : "فجعلنا".
[14849]:- في ت ، أ : "فذلك حين يقول".
[14850]:- في ت ، أ : "قول الله".
[14851]:- في ت : "ببعد".
[14852]:- في ت ، أ : "في السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة".
[14853]:- في ت ، أ : "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال".
[14854]:- سنن أبي داود برقم (4462) وسنن الترمذي برقم (1456) وسنن ابن ماجة برقم (2561) ، وقال الترمذي : "وإنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه ، وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو فقال : "ملعون من عمل عمل قوم لوط" ولم يذكر فيه القتل وذكر فيه : "ملعون من أتى بهيمة".
[14855]:- في ت ، أ : "أو لم يكن محصنا".
[14856]:- زيادة من ت ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ} (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مّنْضُودٍ } .

يقول تعالى ذكره : ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك ، جَعَلْنا عالِيَها يعني عالي قريتهم سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْها يقول : وأرسلنا عليها حِجَارَةً مِنْ سِجّيلٍ .

واختلف أهل التأويل في معنى سجيل ، فقال بعضهم : هو بالفارسية سِنْك وكل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ سِجّيلٍ بالفارسية ، أوّلها حجر ، وآخرها طين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : حِجارَةً مِنْ سِجّيلٍ قال : فارسية أعربت سنك وكل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : السجيل : الطين .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعكرمة : مِنْ سِجّيلٍ قالا : من طين .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد ، عن وهب قال : سجيل بالفارسية : سنك وكل .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : حِجارَةً مِنْ سِجّيلٍ أما السجيل فقال ابن عباس : هو بالفارسية : سنك وجل ، سنك : هو الحجر ، وجل هو الطين . يقول : أرسلنا عليهم حجارة من طين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : حِجارَةً مِنْ سِجّيلٍ قال : طين في حجارة .

وقال ابن زيد في قوله ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : حِجارَةً مِنْ سِجّيلٍ قال : السماء الدنيا . قال : والسماء الدنيا اسمها سجيل ، وهي التي أنزل الله على قوم لوط .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول : السجيل : هو من الحجارة الصلب الشديد ومن الضرب ، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر :

*** ضَرْبا تَوَاصَى بهِ الأبْطالُ سِجّيلاً ***

وقال بعضهم : تحوّل اللام نونا . وقال آخر منهم : هو فعيل من قول القائل : أسجلته : أرسلته ، فكأنه من ذلك أي مرسلة عليهم . وقال آخر منهم : بل هو من «سجلت له سجلاً » من العطاء ، فكأنه قيل : منحوا ذلك البلاء فأعطوه ، وقالوا أسجله : أهمله . وقال بعضهم : هو من السّجِلّ ، لأنه كان فيها علم كالكتاب . وقال آخر منهم : بل هو طين يطبخ الاَجرّ ، وينشد بيت الفضل بن عباس :

مَنْ يُساجِلْنِي يُساجِلْ ماجِدا *** يَمْلأُ الدّلْوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ

فهذا من سَجَلْت له سَجْلاً : أعطيته .

والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون ، وهو أنها من طين ، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع ، وذلك قوله : لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوّمَةً عِنْدَ رَبّكَ للْمُسْرِفِينَ . وقد رُوى عن سعيد بن جبير أنه كان يقول : هي فارسية ونبطية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : فارسية ونبطية سج ايل .

فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن اسم الطين بفارسية جل لا ايل ، وأن ذلك لو كان بالفارسية لكان سجِلّ لاِ سجّيل ، لأن الحجر بالفارسية يدعى سِجَ والطين جِلْ ، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية . وقد بيّنا الصواب من القول عندنا في أول الكتاب بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد ذُكر عن الحسن البصري أنه قال : كان أصل الحجارة طينا فشددت .

وأما قوله : مَنْضُودٍ فإن قتادة وعكرمة يقولان فيه ما :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعكرمة : مَنْضُودٍ يقول : مصفوفة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَنْضُودٍ يقول : مصفوفة .

وقال الربيع بن أنس فيه ، ما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله مَنْضُودٍ قال : نضد بعضه على بعض .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر الهذليّ بن عبد الله : أما قوله : مَنْضُودٍ فإنها في السماء منضودة : معدّة ، وهي من عدّة الله التي أعدّ للظلمة .

وقال بعضهم : منضود : يتبع بعضه بعضا عليهم ، قال : فذلك نَضْدُهُ .

والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، وذلك أن قوله : مَنْضُودٍ من نعت «سجيل » ، لا من نعت الحجارة ، وإنما أمطر القوم حجارة من طين ، صفة ذلك الطين أنه نضد بعضه إلى بعض ، فيصير حجارة ، ولم يمطروا الطين فيكون موصوفا بأنه تتابع على القوم بمجيئه ، وإنما كان جائزا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنزيل بالنصب متضودة فيكون من نعت الحجارة حينئذ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ} (82)

روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط واقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم أرسلها معكوسة ، وأتبعهم الحجارة من السماء ، وروي أن جبريل عليه السلام أخذهم بخوافي جناحه{[6455]} : ويروى أن مدينة منها نجيت كانت مختصة بلوط عليه السلام يقال لها : زغر{[6456]} .

و { أمرنا } في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدراً من أمر ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره مقتضى أمرنا ، ويحتمل أن يكون واحد الأمور ، والضمير في قوله : { عاليها سافلها } للمدن ، وأُجري { أمطرنا } عليها كذلك ، والمراد على أهلها ، وروي أنها الحجارة استوفت منهم من كانوا خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين . وروي أنه كان منهم في الحرم رجل فبقي حجره معلقاً في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر ، و «أمطر » أبداً إنما يستعمل في المكروه ، ومطر يستعمل في المحبوب ، هذا قول أبي عبيدة .

قال القاضي أبو محمد : وليس كذلك وقوله تعالى : { هذا عارض ممطرنا }{[6457]} يرد هذا القول لأنهم إنما ظنوه معتاد الرحمة ، وقوله { من سجيل } اختلف فيه : فقال ابن زيد : { سجيل } : اسم السماء الدنيا .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، ويرده وصفه ب { منضود } . وقالت فرقة هو مأخوذ من لفظ السجل{[6458]} ، أي هي من أمر كتب عليهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، وقالت فرقة : هو مأخوذ من السجل إذا أرسل الشيء كما يرسل السجل وكما تقول : قالها مسجلة{[6459]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقالت فرقة : { من سجيل } معناه : من جهنم لأنه يقال : سجيل وسجين حفظ فيها بدل النون لاماً ، كما قالوا : ُأصيلال وُأصيلان{[6460]} . وقالت فرقة : { سجيل } معناه : شديد وأنشد الطبري في ذلك [ ابن مقبلٍ ] :

. . . . . . . . *** ضرباً تواصى به الأبطال سجيلا{[6461]}

والبيت في قصيدة نونية : سجينا ، وقالت فرقة : { سجيل } لفظة أصلها غير عربية عربت أصلها سنج وكل{[6462]} . وقيل غير هذا في أصل اللفظة . ومعنى هذا اللفظ ماء وطين . هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وغيرهم ، وذهبت هذه الفرقة إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ{[6463]} كانت من طين قد تحجر - نص عليه الحسن - .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يشبه . وهو الصواب الذي عليه الجمهور . وقالت فرقة : معنى { سجيل } حجر مخلوط بطين أي حجر وطين . قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن يرد هذا إلى الذي قبله ، لأن الآجر وما جرى مجراه يمكن أن يقال فيه حجر وطين لأنه قد أخذ من كل واحد منهما بحظه . هي طين من حيث هو أصلها . وحجر من حيث صلبت .

و { منضود } معناه بعضه فوق بعض .

أي تتابع ؛ وهي صفة ل { سجيل } وقال الربيع بن أنس : «نضده » : إنه في السماء منضود معد بعضه فوق بعض .


[6455]:- الخوافي: ريشات أربع إذا ضمّ الطائر جناحيه خفيت، وهي بعد المناكب، والواحدة: خافية: قال في اللسان: "وفي الحديث: (إن مدينة قوم لوط حملها جبريل عليه السلام على خوافي جناحه)، قال الأصمعي: هي الريش الصغار التي في جناح الطائر، ضد القوائم، وفي حديث أبي سفيان: ومعي خنجر مثل خافية النسر"اهـ. وقول الأصمعي يذكرنا بقول رؤبة: خلقت من جناحك الغُدافي *** من القدامى لا من الخوافي وبقول الشاعر: "فإن الخوافي قوة للقوادم" وفي المثل: "ما جعل القوادم كالخوافي".
[6456]:- في "التاج": وزغر كزفر أبو قبيلة..وقيل: اسم ابنة لوط عليه السلام، ومنه زغرة بالشام لأنها نزلت بها فسميت باسمها، فهي بمشارف الشام، قال الأزهري: وإياها عنى أبو داود في قوله: ككنانة الزغري غشاها من الذهب الدلامص
[6457]:- من الآية (24) من سورة (الأحقاف).
[6458]:- قال في الصحاح: "السّجلّ: الصك، وقد سجّل الحاكم تسجيلا"، وفي اللسان: "وقيل: من سجيل: كقولك من سجل أي مما كتب لهم". وفي المعجم الوسيط: "سجّل: كتب في السّجل، وسجّل القاضي: حكم وقضى وأثبت حكمه في السجل". فالسجلّ هو الديوان الذي تسجّل فيه الأحكام والأشياء وتُثبت.
[6459]:- أي: مرسلة، هذا والسّجل هو الدّلو الضخمة المملوءة ماء، مذكر، وجمعه سجال وسجول، وإذا كان فارغا لا يقال له سجل، وإنما هو دلو. (اللسان).
[6460]:- ومن ذلك قول النابغة: وقفت فيها أصيلانا أسائلها *** عيّت جوابا وما بالربع من أحد وأصيلان: تصغير أصيل بزيادة نون على غير قياس، والتصغير للتحبيب، وقد روي البيت باللام، أصيلالا.
[6461]:- هذا عجز بيت لابن مقبل، قال ذلك في (اللسان: سجل)، والبيت بتمامه على رواية اللسان: ورجلة يضربون البيض عن عرض *** ضربا تواصت به الأبطال سجينا قال: وسجيل وسجّين بمعنى واحد. وروى عن أبي عبيدة قوله مستشهدا بهذا البيت: "من سجّيل، تأويله: كثيرة شديدة"، وروي البيت في القرطبي: "يضربون البيض ضاحية".
[6462]:- قال في القرطبي: "قالت طائفة منهم ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن إسحاق: إن سجيلا لفظة غير عربية عرّبت، أصلها: "سنج وجيل"، ويقال: "سنك وكيل" بالكاف موضع الجيم، هما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا".
[6463]:- الآجر: الطين المطبوخ، يبنى به، والواحدة: أجرّة، وآجُرّة، وآجِرّة. قال أبو عمرو: فارسي معرب، (اللسان).