قوله عز وجل : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد } ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق . { هل من محيص } فلم يجدوا محيصاً من أمر الله . وقيل : هل من محيص مفر من الموت ؟ فلم يجدوا فيه إنذار لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفراً عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله .
يقول تعالى : وكم أهلكنا قبل هؤلاء المنكرين{[27365]} : { مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أي : كانوا أكثر منهم وأشد قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ؛ ولهذا قال هاهنا : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } قال ابن عباس : أثروا فيها . وقال مجاهد : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } : ضربوا في الأرض . وقال قتادة : فساروا في البلاد ، أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلاد : نقب فيها . قال امرؤ القيس :
لقد نَقَّبْتُ في الآفاق حَتّى *** رضيتُ من الغَنِيمة بالإيَابِ{[27366]}
وقوله : { هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره ؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ؟ فأنتم أيضًا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص .
وقوله : وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون ، هُمْ أشَدّ من قريش الذين كذّبوا محمدا بَطْشا فَنّقُبوا في البِلادِ يقول : فَخَرَقُوا البلادَ فساروا فيها ، فطافوا وتوغّلوا إلى الأقاصي منها قال امرؤ القَيس :
لقَدْ نَقّبْتُ فِي الاَفاقِ حتّى *** رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بالإيابِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَنَقّبُوا فِي البِلادِ قال : أثّروا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَنَقّبُوا فِي البِلادِ قال : يقول : عملوا في البلاد ذاك النقْب . ذكر من قال ذلك :
وقوله : هَلْ مِنْ مَحِيصٍ يقول جلّ ثناؤه : فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت ومَنْجي من الهلاك إذ جاءهم أمرنا . وأضمرت كان في هذا الموضع ، كما أضمرت في قوله وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ التي أخْرَجَتْك أهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ بمعنى : فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم . وقرأت القرّاء قوله فَنَقّبُوا بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم . وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك «فَنَقِبُوا » بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد : أي طوّفوا في البلاد ، وتردّدوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله مِنْ مَحِيصٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ . . . حتى بلغ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قد حاص الفَجرة فوجدوا أمر الله مُتّبِعا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : فَنَقّبُوا فِي البِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال : حاص أعداء الله ، فوجدوا أمر الله لهم مُدْرِكا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال : هل من منجي .
{ وكم أهلكنا قبلهم } قبل قومك . { من قرن هم أشد منهم بطشا } قوة كعاد وثمود وفرعون . { فنقبوا في البلاد } فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها ، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت ، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب ، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه . { هل من محيص } أي لهم من الله أو من الموت . وقيل الضمير في { نقبوا } لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ، ويؤيده أنه قرئ " فنقبوا " على الأمر ، وقرئ " فنقبوا " بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم .
انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] وما فُرّع عليه من قوله : { أفَعَيِينَا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] . وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس إلى قوله : { فحقّ وعيد } [ ق : 12 ، 14 ] . فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً } .
والخبر الذي أفاده قوله : { وكم أهلكنا قبلهم } تعريض بالتهديد وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وضميرا { قبلهم } و { منهم } عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ويفسره قوله بعده فقال الكافرون هذا شيء عجيب } [ ق : 2 ] . وجرى على ذلك السَّنَن قوله : { كَذَّبت قبلهم قوم نوح } وقوله : { بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] ، ونظائره في القرآن كثيرة .
و { كم } خبرية وجرّ تمييزها ب { من } على الأصل .
والبطش : القوة على الغير . والتنقيب : مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب ، فيكون بمعنى : خَرَقوا ، واستعير لمعنى : ذللوا وأخضعوا ، أي تصرفوا في الأرض بالحفر الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله : { وأثارُوا الأرض وعَمَرُوها } في سورة الروم ( 9 ) .
وتعريف البلاد } للجنس ، أي في الأرض كقوله تعالى : { الذين طغوا في البلاد } [ الفجر : 11 ] .
والفاء في { فنقبوا } لتفريع عن { أشد منهم بطشاً } ، أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد .
والجملة معترضة بين جملة { وكم أهلكنا قبلهم } إلى آخره .
وجملة { هل من محيص } كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] .
وجملة { هل من محيص } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } ، أي إهلاكاً لا منجى منه . ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة . فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك دخلت { من } على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال : ما مِن محيص ، وهذا قريب من قوله في سورة ص ( 3 ) { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص } .
والمحيص : مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد ، أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد } في سورة مريم ( 98 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.