اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ} (36)

قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } نصب{[52535]} بما بعده{[52536]} . وقدم إما لأنه استفهام ، وإما لأن «كم » الخبرية تَجْرِي مَجْرَى الاستفهامية في التصدير . و«مِنْ قَرْنٍ » تمييز و«هُمْ أَشَدُّ » صفة إما «لكَمْ » وإما لِقَرنْ .

قوله : «فَنَقَّبُوا » الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل : اشتدَّ بطشهم فَنَقَّبُوا{[52537]} والضمير في ( نَقَّبُوا ) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقُرَيْشٍ ، ويؤيده قراءة ابن عباس - ( رضي الله عنهما ){[52538]} - وابن يَعْمُرَ{[52539]} ، وأَبِي العَالِيَة{[52540]} ، ونَصْرِ بن يَسَار{[52541]} ، وأبي حيوة ، والأصمعي - عن أبي عمرو - ( رضي الله عنهم ){[52542]} فَنَقِّبُوا{[52543]} - بكسر القاف - أمراً لهم بذلك .

والتَّنْقِيبُ التَّنْقِيرُ والتّفتيش ، ومعناه التَّطْوَافُ في البلاد ، قال الحارُ بنُ حِلِّزَةَ :

نَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ مِنْ حَذَرِ الْمَو *** تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ{[52544]}

وقال امرؤ القيس :

وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى *** رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ{[52545]}

وقرأ ابنُ عَباسٍ وأبو عمرو أيضاً في رواية : نَقَبُوا بفتح القاف خفيفة{[52546]} . ومعناها كما تقدم . وقرئ : نَقِبُوا بكسرها خفيفة{[52547]} أي نَقِبَتْ أقدامُهُمْ وَأَقْدَام إبلهم ودَمِيَتْ فحذف المضاف ، وذلك لكثرة تَطْوَافِهِمْ{[52548]} .

قوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مبتدأ{[52549]} أو خبر مضمر تقديره : هل لمن سلك طريقهم . أو هل لهم من محيص{[52550]} . وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قولٍ{[52551]} وأن لا تكون{[52552]} .

فصل

المعنى فَنَقَّبُوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا ، وأصله من النَّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كُلَّ طريق ، فلم يجدوا محيصاً من أمر الله . وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة ، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهرباً .

وقيل : المعنى صاروا نُقَبَاء في الأرض أراد ما أفادهم بَطْشُهُم وقُوَّتُهُم ؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول : كانَ زَيْدٌ أَقوى من عَمْرو فَغَلَبَهُ . والمعنى كانوا أشدَّ منهم بطشاً فصاروا نقباءَ في الأَرْضِ ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، ومن قوتهم خَرَقُوا الطُّرق ونَقَّبُوها وقَطَعُوا الصُّخُورَ{[52553]} .

وقيل : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مفر من{[52554]} الموت ، فلم يجدوا . وهذا جمع بين الإنْذارِ بالعذاب العاجل والعقاب الآجل ؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المُهْلِك ، والإهلاك المُدْرك . وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سَبِيلهم .

فإن قيل : إذا كان ( ذلك للجمع ) {[52555]} بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فَلِمَ توسَّطَهُمَا قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } ؟

فالجواب : ليكون ذلك رَدْعاً{[52556]} بالخوف والطمع ، فذكر حال الكفور ( المعاند ){[52557]} ، وحال الشكور ترهيباً وترغيباً .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يجمع بين التَّرْهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسْلَمَ من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه ؟

فالجواب : أن النعمة كانت قد وصلت إليهم ، وكانوا مُتَقَلِّبين في النِّعم فلم يُذَكِّرْهم به ، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمْرين جميعاً فأخبرهم بها{[52558]} .

وقوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيصٌ . وقيل : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تَعْتَمِدُونَ عَلَيْه ؟

ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المَحِيص { هَلْ مِن مَّحِيصٍ ؟ }{[52559]} .

والمَحِيصُ كالمَحِيدِ{[52560]} غير أن المحيص مَعْدَل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم : «وَقَعَوا فِي حَيْصَ بَيْصَ »{[52561]} أي في شدةٍ وضيق ، والمَحِيدُ مَعْدَلٌ وإن كان بالاختيار ، فيقال : حَادَ عن الطَّريق بَطراً{[52562]} . ولا يقال : حَاصَ عن الأَمر بَطَراً .


[52535]:وهو كم.
[52536]:وهو أهلكنا.
[52537]:مشى المؤلف في عرضه لتلك الإعرابات على سبيل التوضيح والتبيين لكلام أبي البقاء العُكبَريّ في التبيان 1177.
[52538]:زيادة من (أ) الأصل.
[52539]:هو يحيى بن يعمر وقد عُرّف به.
[52540]:الرّياحيّ وقد عرف به أيضا.
[52541]:لم أعثر على ترجمته وفي المحتسب: سَيّار لا يَسَار.
[52542]:زيادة من (أ) الأصل.
[52543]:وهي شاذة انظر الكشاف 4/11 والبحر المحيط 8/129 ومختصر ابن خالويه 144 ومعاني الفراء 3/80 والمحتسب 2/285.
[52544]:نسبه السيوطي في الدر المنثور له 7/68 لعديّ بن زيد، والمشهور أنه للحارث، وهو من الخفيف ومعناه أنهم طافوا بالبلاد يلتمسون محيصا من الموت. والشاهد: في نقبوا فإن معناه التطواف كما أوضح أعلى. وانظر القرطبي 17/202 وفتح القدير 5/80 والبحر 8/129 الكشاف 4/11 وشرح شواهده 4/503.
[52545]:من الوافر. وروايته في الديوان 99 بلفظ "وقد طوفت". وروي في اللسان بلفظ: "السلامة" بدل الغنيمة. وقد تقدم.
[52546]:ولم ترو عن أبي عمرو في المتواتر، بل هي شاذّة ذكوها صاحب الجامع الإمام القرطبي 17/22 عن الحسن وأبي العالية بينما ذكر أبو حيان في البحر 8/129 والزمخشري في الكشاف 4/19 غير ذلك، ذكر أبو حيان قراءة التخفيف مع كسر القاف بينما ذكر الزمخشري التخفيف المطلق دون تحديد كسر أو فتح. وانظر المختصر 144 أيضا بالنسبة إلى قائليها بفتح القاف من المحقق لكنه أطلق كالزمخشري.
[52547]:نسبها محقق كتاب المختصر لابن يعمُر وأبي العالية وهو تحريف وقع فيه المحقّق لا ابن خالويه ظاهر الكتب تنسب القراءة إليهما بكر القاف مع تشديدها. وقد ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر 8/129 دون نسبة.
[52548]:المرجع السابق.
[52549]:يقصد "محيص" وهو مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
[52550]:وهو ظاهر كلام أبي البقاء في التبيان 1177.
[52551]:أي يقولون هل من محيص لا محل لها من الإعراب مقول القول.
[52552]:أي لا محيص من الموت فيكون توقيفا وتقريرا. قاله أبو حيان في مرجعه السابق.
[52553]:وانظر الرازي 28/181 و182.
[52554]:البغوي 6/238.
[52555]:سقط من (ب).
[52556]:كذا في النسختين وفي الرازي: دعاء.
[52557]:سقط كذلك من (ب).
[52558]:وانظر الرازي 28/181.
[52559]:ذكر هذه الأوجه الإعرابية أبو عبد الله الرازي الإمام في مرجعه السابق.
[52560]:معنى وفي اللفظ هو: مصدر ميمي أو اسم مفعول وكلاهما من الثلاثي أم اسم مكان أو زمان وهو مثلهما.
[52561]:تنطق هكذا: حَيْص بَيْصَ، وحِيص بِيص، وحَيْصِ بَيصِ، وحاصِ باصِ أي في ضيق وشدة، وقيل: في اختلاط من أمر مخرج لهم منه. ونصب "حيص بيص" على كل حال وإذا أفردوه أجروه وربما تركوا إجراءه. وقال الجوهري: وحَيْصَ بَيْصَ اسمان جُعلا واحدا وبُنيا على الفتح مثل جاري بيت بيت. وفي معناهما كلام آخر انظر اللسان إن أردت والصّحاح "حَيصَ".
[52562]:كذا في النسختين وفي الرازي: نظرا والأصح النسختان. وانظر هذا كله في الرازي 28/182.