قوله تعالى : { ولقد صرفناه بينهم } يعني : المطر مرة ببلد ومرة ببلد آخر . قال ابن عباس : ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض ، وقرأ هذه الآية . وهذا كما روي مرفوعاً : " ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء " . وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود يرفعه قال : ليس من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن الله قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في السماء الدنيا ، في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار . وقيل : المراد من تصريف المطر تصريفه وابلاً وطلاً ورذاذاً ونحوها . وقيل : التصريف راجع إلى الريح . { ليذكروا } أي : ليتذكروا ويتفكروا في قدرة الله تعالى : { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } جحوداً ، وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك بن أنس ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء . كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي ، وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " .
وقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي : أمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى ، [ فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا ، والتي وراءها ]{[21550]} لم ينزل فيها قطرة من ماء ، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة .
قال ابن مسعود وابن عباس : ليس عام بأكثر مطرًا من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ، ثم قرأ هذه الآية : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } .
أي : ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات{[21551]} . والعظام الرفات . أو : ليذكر من منع القَطْر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه ، فيقلع عما هو فيه .
وقال عُمَر مولى غُفْرَة{[21552]} : كان جبريل ، عليه السلام ، في موضع الجنائز ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، إني أحب أن أعلم أمْرَ السحاب ؟ " قال : فقال جبريل : يا نبي الله ، هذا ملك السحاب فسله . فقال : تأتينا صَكاك مُخَتَّمة : اسق بلاد كذا وكذا ، كذا وكذا قطرة . رواه ابن حاتم ، وهو حديث مرسل .
وقوله : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } : قال عكرمة : يعني : الذين{[21553]} يقولون : مطرنا بنَوء كذا وكذا .
وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً ، على أثر سماء أصابتهم من الليل : " أتدرون ماذا قال ربكم " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي ، مؤمن بالكوكب " {[21554]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُواْ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً } .
يقول تعالى ذكره : ولقد قسمنا هذا الماء الذي أنزلناه من السماء طهورا لنحيي به الميت من الأرض بين عبادي ، ليتذكروا نعمي عليهم ، ويشكروا أياديّ عندهم وإحساني إليهم ، فأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُورا يقول : إلا حجودا لنعمي عليهم ، وأياديّ عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت الحسن بن مسلم يحدّث طاوسا ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكنّ الله يصرّفه بين خلقه قال : ثم قرأ : وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، قال : حدثنا الحسين بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكنه يصرفه في الأرضين ، ثم تلا وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهمْ لِيَذّكّروا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ قال : المطر ينزله في الأرض ، ولا ينزله في الأرض الأخرى ، قال : فقال عكرِمة : صرفناه بينهم ليذّكروا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُوا قال : المطر مرّة ههنا ، ومرّة ههنا .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يزيد بن أبي زياد ، أنه سمع أباجحيفة يقول : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ليس عام بأمطر من عامّ ، ولكنه يصرفه ، ثم قال عبد الله : ولقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ . وأما قوله : فأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كفُورا فإن القاسم .
حدثنا قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرِمة فأَبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفَورا قال : قولهم في الأنواء .
{ ولقد صرفناه بينهم } صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن الكريم وسائر الكتب ، أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : " ما عام أمطر من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء وتلا هذه الآية " أو في الأنهار والمنافع . { ليذكروا } ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره ، أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم . { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها ، أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ، ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا بخلاف من يرى أنها من خلق الله ، والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى .
والضمير في { صرفناه } قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء ، المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد ، وقاله ابن مسعود ، وقوله على هذا التأويل { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة ، وقيل { كفوراً } على الإطلاق لما تركوا التذكر ، وقال ابن عباس الضمير في { صرفناه } للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك قوله بعد ذلك ، { وجاهدهم به } ، وعلى التأويل الأول الضمير في { به } يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه ، وقال ابن زيد يراد به الإِسلام ، وقرأ عكرمة «صرَفنا » بتخفيف الراء ، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون «ليذْكروا » بسكون الذال ، وقرأ الباقون «ليذكّروا » بشد الذال والكاف .
ضمير { صرفناه } عائد إلى { ماء طهوراً } . والتصريف : التغيير . والمراد هنا تغيير أحوال الماء ، أي مقاديره ومواقعه .
وتوكيد الجملة بلام القسم و ( قد ) لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو أن من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكُروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم ، لأن كثيراً من الناس لا يقدُر قدرَ النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الربّ الواحد المختار في خلق الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية .
ولما كان التذكر شاملاً لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون ، جيء في التعليل بفعل { ليذكروا } ليكون علة لحالتي التصريف بينهم .
وقوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } تركيب جرى بمادّته وهيئته مجرى المَثَل في الإخبار عن تصميم المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء ، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى ، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأنّ الآبين قد عرضت عليهم من الناس أو من خواطرهم أمورٌ وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكُفور ، وإن لم يكن هنالك عَرض ولا إباء ، ومنه قوله تعالى في سورة براءة : ( 32 ) { ويأبى الله إلاّ أن يُتِمّ نورَه } ؛ ألاَ ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد وفي سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام . وشدّةُ الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يُستعمل في قوله تعالى في سورة الصّفّ : ( 8 ) : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره } .
والكُفور : مصدر بمعنى الكفر . وتقدم نظيره في سورة الإسراء ، أي أبوا إلاّ الإشراك بالله وعدم التذكر .
وقرأ الجمهور { ليذّكّروا } بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاءُ وأصله ليتذكروا . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة ، أي ليذْكُروا ما هم عنه غافلون .
ويؤخذ من الآية أن الماء المنزّل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القَطر ، فعن ابن عباس : ما عامٌ أقل مطراً من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء . وتلا هذه الآية . وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما من سنة بأمطرَ من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صَرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار » اه . فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه . وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر ، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير .
وجوز فريق أن يكون ضمير { صرفناه } عائداً إلى غير مذكور معلوم في المقام مرادٍ به القرآن ؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره ، وتكرر في قوله : { إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [ الفرقان : 30 ] . وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء ، ولقوله بعده { وجاهدهم به جهاداً كبيراً } [ الفرقان : 52 ] .
وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور ، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذّكروا .