مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَٰهُ بَيۡنَهُمۡ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا} (50)

قوله تعالى : { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا } .

المسألة الأولى : اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله : { ولقد صرفناه } إلى أي شيء يرجع وذكروا فيه ثلاثة أوجه : أحدها : وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر ، ثم من هؤلاء من قال معنى ( صرفناه ) أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به ، وقال آخرون معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان وفي عام دون عام ، ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول ، قال ابن عباس ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض ، ثم قرأ هذه الآية ، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من عام بأمطر من عام ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي » وثانيها : وهو قول أبي مسلم : أن قوله : { صرفناه } راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة . وثالثها : { ولقد صرفناه } أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على رسل وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع ، والوجه الأول أقرب لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير .

المسألة الثانية : قال الجبائي قوله تعالى : { ليذكروا } يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر ، قال ودل قوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } على قدرتهم على فعل هذا التذكر إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال أبوا أن يفعلوه كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى ، وقال الكعبي قوله : { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا } حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأن قوله : { ليذكروا } عام في الكل ، وقوله : { فأبى أكثر الناس } يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلا في ذلك العام لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا ، فأبى أكثر -بني تميم- إلا كفورا . واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مرارا .

المسألة الثالثة : قوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } المراد كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه ، وقيل المراد من الكفور هو الكفر وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون مطرنا بنوء كذا لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم ، وأضاف شيئا من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر ، واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره ، وأما من قال الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث ، فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر .

المسألة الرابعة : قالوا الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيرا ، ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادرا على ذلك فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له .