يقول تعالى : يا محمد ، هذا{[21426]} الذي وصفناه من حال أولئك الأشقياء{[21427]} ، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ{[21428]} وزفير ، ويُلقَون في أماكنها الضيقة مقرَّنين ، لا يستطيعون حراكا ، ولا انتصاراً ولا فكاكا مما هم فيه - : أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ، التي أعدها لهم ، وجعلها لهم جزاء على ما أطاعوه في الدنيا ، وجعل مآلهم إليها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتِي وَعِدَ الْمُتّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىَ رَبّكَ وَعْداً مّسْئُولاً } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة : أهذه النار التي وصف لكم ربّكم صفتها وصفة أهلها خير ، أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد ، الذي وَعَد من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه ؟ وقوله : كانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرا يقول : كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته وثواب تقواهم إياه ومصيرا لهم ، يقول : ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الاَخرة . وقوله : لَهُمْ فِيها ما يَشاءُونَ يقول : لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي وَعَدَهموها الله ، ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين . خالدِينَ فيها ، يقول : لابثين فيها ماكثين أبدا ، لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها . وقوله : كانَ عَلى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا : آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ يقول الله تبارك وتعالى : كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الاَخرة ، وعْدا وعدهُمُ الله على طاعتهم إياه في الدنيا ومسئلتهم إياه ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس : كانَ عَلى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً قال : فسألوا الذي وعدَهُم وتنجزوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كانَ عَلى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً قال : سألوه إياه في الدنيا ، طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم ، إذ سألوه أن يعطيهم فأعطاهم ، فكان ذلك وعدا مسئولاً ، كما وقّت أرزاق العباد في الأرض قبل أن يخلقهم فجعلها أقواتا للسائلين ، وقّت ذلك على مسئلتهم . وقرأ : وَقَدّرَ فِيها أقْوَاتَها فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَوَاءً للسّائِلِينَ .
وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله : وَعْدا مَسْئُولاً إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا ، وذلك أن المسئول واجب ، وإن لم يُسْأل كالدين ، ويقول : ذلك نظير قول العرب : لأعطينك ألفا وعدا مسئولاً ، بمعنى واجب لك فتسأله .
{ قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون } الإشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى ال{ كنز } أو ال { جنة } ، والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة ال{ جنة } إلى { الخلد } للمدح أو لدلالة على خلودها ، أو التمييز على جنات الدنيا . { كانت لهم } في علم الله أو اللوح ، أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع . { جزاء } على أعمالهم بالوعد . { ومصيرا } ينقلبون إليه ، ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب لأنهم في مقابلتهم .
المعنى { قل } يا محمد لهؤلاء الكفرة الذين هم بسبيل مصير إلى هذه الأحوال من النار ، { أذلك خير أم جنة الخلد } ؟ وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ ، ومن حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه مجيء لفظ التفضيل بين الجنة والنار في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاورة على ما يشاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ ، وإنما يمنع سيبويه وغيره من التفضيل بين شيئين لا اشتراك بينهما في المعنى الذي فيه تفضيل إذا كان الكلام خبراً لأنه فيه مخالفة ، وأما إذا كان استفهاماً فذلك سائغ{[8791]} ، وقيل الإشارة بقوله { أذلك } إلى الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وإلى القصور التي في قوله { تبارك الذي إن شاء جعل لك } [ الفرقان : 10 ] ، وهذا على أن يكون الجعل في الدنيا وقيل الإشارة بقوله { أذلك خير } إلى الكنز والجنة التي ذكر الكفار .
قال الفقيه الإمام القاضي : والأصح إن شاء الله أن الإشارة بقوله { أذلك } إلى النار كما شرحناه آنفاً ، و { المتقون } في هذه الآية من اتقى الشرك فإنه داخل في الوعد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لكفار مكة: {أذلك} الذي ذكر من النار {خير} أفضل {أم جنة الخلد} يعني: التي لا انقطاع لها {التي وعد المتقون كانت لهم جزاء} بأعمالهم الحسنة {ومصيرا} يعني: ومرجعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة: أهذه النار التي وصف لكم ربّكم صفتها وصفة أهلها خير، أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد، الذي وَعَد من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه؟
وقوله:"كانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرا" يقول: كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته وثواب تقواهم إياه ومصيرا لهم، يقول: ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الآخرة.
وقوله: "لَهُمْ فِيها ما يَشاءُونَ "يقول: لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي وَعَدَهموها الله، ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.
"خالدِينَ فيها"، يقول: لابثين فيها ماكثين أبدا، لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها. وقوله: "كانَ عَلى رَبّكَ وَعْدا مَسْئُولاً" وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا: آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، يقول الله تبارك وتعالى: كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الآخرة، وعْدا وعدهُمُ الله على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك...
وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله: "وَعْدا مَسْئُولاً" إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا، وذلك أن المسئول واجب، وإن لم يُسْأل كالدين، ويقول: ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفا وعدا مسئولاً، بمعنى واجب لك فتسأله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"قل" لهم يا محمد "أذلك خير" يعني ما ذكره من السعير وأوصافه خير "أم جنة الخلد"، وانما قال ذلك على وجه التنبيه لهم على تفاوت ما بين الحالين. وإنما قال "أذلك خير أم جنة الخلد" وليس في النار خير، لأن المراد بذلك، أي المنزلين خير؟! تبكتا لهم وتقريعا.
" التي وعد المتقون" أي وعد الله بهذه الجنة من يتقي معاصيه ويخاف عقابه "كانت لهم جزاء ومصيرا" يعني الجنة مكافأة وثوابا على طاعاتهم، ومرجعهم إليها ومستقرهم فيها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المتقون أبداً في النعيم المقيم؛ حور وسرور وحبور، ورَوْحٌ وريحان، وبهجة وإحسان، ولطف جديد وفضل مزيد، وألذُّ شرابٍ وكاساتُ محابِّ، وبسطُ قلبٍ وطيبُ حالٍ، وكمال أُنْسٍ ودوام طرب وتمام جَذَلٍ، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماءٌ في الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها. ثم فيها ما يشاؤون، وهم أبداً مقيمون لا يبرحون، ولا هم عنها يخرجون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً}؟ قلت: هو كقوله: {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 31] فمدح الثواب ومكانه، كما قال: {بِئْسَ الشراب وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] قدّم العقاب ومكانه لأنّ النعيم لا يتمّ للمتنعم إلاّ بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وأن لا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت عادتهم تجويز الممكن من كل ما يحذرون منه من الخلق، اقتضى الحال سؤالهم: هل أعدوا لما هددوا به من الخالق عدة أم لا؟ في سياق الاستفهام عن المفاضلة بينه وبين ما وعده المتقون، تنبيهاً على أنه أعلى رتبة من الممكن فإنه واقع لا محالة، وتهكماً بهم، فقال تعالى: {قل أذلك} أي الأمر العظيم الهول الذي أوعدتموه من السعير الموصوفة.
ولما كانت عادة العرب في بيان فضل الشيء دون غيره الإتيان بصيغة أفعل تنبيهاً على أن سلب الخير عن مقابله لا يخفى على أحد، أو يكون ذلك على طريق التنزل و إرخاء العنان، تنبيهاً للعاقل على أنه يكفيه في الرجوع عن الغي طروق احتمال لكون ما هو عليه مفضولاً قال: {خير أم جنة الخلد} أي الإقامة الدائمة {التي وعد المتقون} أي وقع الوعد الصادق المحتم بها، ممن وعده هو الوعد، للذين خافوا فصدقوا بالساعة جاعلين بينهم وبين أهوالها وقاية مما أمرتهم به الرسل؛ ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله: {كانت} أي تكونت ووجدت بإيجاده سبحانه {لهم جزاء} على تصديقهم وأعمالهم {ومصيراً} أي مستقراً ومنتهى، وذلك مدح لجزائهم لأنه إذا كان في محل واسع طيب كان أهنأ له وألذ كما أن العقاب إذا كان في موضع ضيق شنيع كان أنكى وأوجع، وهو استفهام تقريع وتوبيخ لمن كان يعقل فيجوز الممكنات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأمر بالقول يقتضي مخاطباً مقولاً له ذلك: فيجوز أن يقصد: قل لهم، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق: « أذلك خير أم الجنة»؟ فالجمل متصلة السياق، والاستفهام حينئذٍ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيراً. ويجوز أن يقصد: قل للمؤمنين، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين، والاستفهام حينئذٍ مستعمل في التلميح والتلطف. وهذا كقوله: {أذلك خيرٌ نُزُلاً أم شجرةُ الزقوم} في سورة الصافات (62).
والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم.
و {خير} اسم تفضيل... والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين. وعلى المحمل الثاني مستعمل للتلميح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم.
ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر، وعلى المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده {المتقون} من العموم للمخاطبين ومن يجيء بعدهم.
وجملة: {كانت لهم جزاء ومصيراً} تذييل لجملة: {جنة الخلد التي وعد المتقون} لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير {جزاء ومصيراً} مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} [الكهف: 31]
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك حال المتقين بعد الساعة.
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا (15)}.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، طلب إليه ربه تعالى بعد ان ذكر لهم ما أعده الله تعالى للذين لا يؤمنون بالبعث ويشركون بربهم، أن يبين لهم ما أعده للمتقين الأبرار الذين يؤمنون بالبعث مقابلا بينه وبين ما أعد للمشركين، فقال: أذلك السعير الذي أعد لهم، والذي ينادون فيه بالهلاك حسرة وندما خير في مآله ونهايته، أم جنة الخلد والنقاء التي أعدها للمتقين الأبرار، والمعادلة من حيث إن كلا مستعد هيأ الله له ما يستحقه، فهم يستطيعون أن ينالوا الجنة إن اتقوا، كما ينال الذين أنكروا البعث ما يلقون من جهنم وسعير.
وإن الجنة استحقوها جزاء لأعمالهم، وهي مصيرهم ومآلهم الذي كان لهم نهاية، وغاية المتقين الأطهار.