مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ أَذَٰلِكَ خَيۡرٌ أَمۡ جَنَّةُ ٱلۡخُلۡدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۚ كَانَتۡ لَهُمۡ جَزَآءٗ وَمَصِيرٗا} (15)

قوله تعالى : { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا } .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة ، فقال لرسوله : { قل أذلك خير أم جنة الخلد } أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة ، فإن قيل : كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد ، وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر ؟ قلنا هذا يحسن في معرض التفريع ، كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضربا وجيعا ، ويقول على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك ؟

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله : { وعد المتقون } على أن الثواب غير واجب على الله تعالى ، لأن من قال السلطان وعد فلانا أن يعطيه كذا ، فإنه يحمل ذلك على التفضيل ، فأما لو كان ذلك الإعطاء واجبا لا يقال إنه وعده به ، أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضا على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى ، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد إنما حصل معللا بصفة التقوى ، والتفضيل غير مختص بالمتقين ، فوجب أن يكون المختص بهم واجبا .

المسألة الثالثة : قال أبو مسلم : جنة الخلد ، هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء ، كالشكر والشكور قال الله تعالى : { لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } فإن قيل : الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله : { جنة الخلد } ؟ قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال ، كما يقال الله الخالق البارئ ، وما هنا من هذا الباب .

أما قوله : { كانت لهم جزاء ومصيرا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين : الأول : أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق ، فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء . والثاني : لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله : { جزاء } وبين قوله : { مصيرا } تفاوت فيصير ذلك تكرارا من غير فائدة . قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه جزاء ، إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق ، وليس في الآية ما يدل على التعيين .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين : الأول : أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقا للثواب ، لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر ، والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع ، والجمع بينهما محال ، وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه ، فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول : لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة ، وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة ، إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار ، لأنه تعالى قال : { فريق في الجنة وفريق في السعير } وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى : { كانت لهم جزاء ومصيرا } فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقا لهم ، وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز ، ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز . أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال : المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة ؟ فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها ، الوجه الثاني : قالوا : المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر ، وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمنا أم لا ، لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقيا ، ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيرا وهذا للحصر ، والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة ، قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيرا ، لكنها بعدما صارت كذلك ، فلم قال الله تعالى : { كانت لهم جزاء ومصيرا } ؟ جوابه من وجهين : الأول : أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان . والثاني : أنه كان مكتوبا في اللوح قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم .