السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ أَذَٰلِكَ خَيۡرٌ أَمۡ جَنَّةُ ٱلۡخُلۡدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۚ كَانَتۡ لَهُمۡ جَزَآءٗ وَمَصِيرٗا} (15)

ولما وصف تعالى : العقاب المعدّ للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة بقوله تعالى : { قل } أي : لهؤلاء البعداء البغضاء { أذلك } أي : المذكور من الوعيد وصفة النار { خير أم جنة الخلد } أي : الإقامة الدائمة { التي وعد المتقون } أي : وعدها الله تعالى لهم ، فالراجع إلى الموصوف وهو هاء وعدها محذوف .

فإن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد ، وهل يجوز أن يقول القائل : السكر أحلى أم الصبر ؟ أجيب : بأنه يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر ، فضربه ويقول له : هذا خير أم ذلك ؟ قال أبو مسلم : جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور ، قال تعالى : { لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } ( الإنسان ، 9 ) فإن قيل : الجنة اسم لدار الخلد ، فأي فائدة في قوله تعالى : { جنة الخلد } ؟ أجيب : بأنّ الإضافة قد تكون للبيتين ، وقد تكون لبيان صفة الكمال كقوله تعالى : { هو الله الخالق البارئ } ( الحشر ، 24 ) وهذا من هذا البيان أو للتمييز عن جنات الدنيا ، ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله : { كانت لهم جزاء } أي : ثواباً على أعمالهم بفضل الله تعالى وكرمه { ومصيراً } أي : مرجعاً .

فإن قيل : إن الجنة ستصير للمتقين جزاءً ومصيراً لكنها بعدما صارت كذلك فلم قال تعالى : { كانت } ؟ أجيب : من وجهين : الأول : أن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كالواقع ، الثاني : أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم ، فإن قيل : لم جمع تعالى بين الجزاء والمصير ؟ أجيب : بأن ذلك كقوله تعالى : { نعم الثواب وحسُنت مرتفقاً } ( الكهف ، 31 ) ، فمدح الثواب ومكانه ، كما قال تعالى : { بئس الشراب وساءت مرتفقاً } ( الكهف ، 29 ) فذم العذاب ومكانه ؛ لأن النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة ، وإلا تنغص ، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته ، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء .

تنبيه : المتقي يشمل من اتقى الكفر وإن لم يتق المعاصي وإن كان غيره أكمل .