قوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } ، أي : الزموا مكانكم ، { أنتم وشركاؤكم } ، يعني : الأوثان ، معناه : ثم نقول للذين أشركوا : الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم ، ولا تبرحوا . " فزيلنا " ميزنا وفرقنا " بينهم " ، أي : بين المشركين وشركائهم ، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ، وذلك حين يتبرأ كل معبود من دون اله ممن عبده ، " وقال شركاؤهم " ، يعني : الأصنام ، " ما كنتم إيانا تعبدون " ، بطلبتنا فيقولون : بلى ، كنا نعبدكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم نحشرهم جميعا} يعني الكفار وما عبدوا من دون الله،
{ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم} يعني بهم الآلهة،
{فزيلنا بينهم} يعنى فميزنا بين الجزاءين،
{وقال شركاؤهم} يعني الآلهة وهم الأصنام: {ما كنتم إيانا تعبدون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعا، ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهة والأنداد:"مكانكم" أي: امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم "أنتم "أيها المشركون "وشركاؤكم" الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان. "فَزَيّلْنا بَيْنَهُمْ" يقول: ففرّقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به، من قولهم: زِلْت الشيء أزيلُه، إذا فرّقت بينه وبين غيره وأبَنْتُه منه. وقال: «فزيلنا» إرادة تكثير الفعل وتكريره. ولم يقل: فزلنا بينهم. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرأه: «فزايلنا بينهم»، كما قيل: "وَلا تُصعّرْ خَدّكَ" و "لا تصاعر خدّك"... "وقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إيّانا تَعْبُدُونَ" وذلك حين "تَبرّأ الّذِينِ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وَرَأوُا الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسبابُ" لما قيل للمشركين اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: كنا نعبد هؤلاء، فقالت الآلهة لهم: "ما كنتم إيانا تعبدون"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
سماهم شركاء، وإن لم يكونوا شركاء في الحقيقة لما عندهم أنهم شركاء كما سمى الأصنام آلهة لما عندهم أنهم آلهة.
والثاني: (شركاؤهم) لما أشركوها في العبادة، فهم شركاؤهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي الجملة.. يتبرأ بعضُهم مِنْ بعض، ويذوقُ كلُّ وبالَ فِعْلِه. وفائدةُ هذا التعريف أنه ما ليس لله فهو وبالٌ عليهم؛ فاشتغالُهم -اليوم- بذلك مُحَالٌ، ولهم في المآلِ- مِنْ ذلك- وبالُ.
المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار، فالضمير في قوله {ويوم نحشرهم} عائد إلى المذكور السابق، وذلك هو قوله: {والذين كسبوا السيئات} فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر، دل على أن المراد من قوله: {والذين كسبوا السيئات} الكفار، وحاصل الكلام: أنه تعالى يحشر العابد والمعبود، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرؤون منهم، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار {مكانكم} كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا، ونظيره قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون}.
والقول الثالث: إن المراد بهؤلاء الشركاء، كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين سبحانه مآل الفريقين، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله: {ويوم} أي و فرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم {نحشرهم} أي الفريقين: الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم {جميعاً} ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 4] وإلى قوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18] والحشر: الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛ وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله: {ثم نقول للذين أشركوا} أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛ وقوله: {مكانكم}... أي نقول لهم: قفوا وقوف الذل {أنتم وشركآؤكم} حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهارا لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم، فلا يمكنهم مخالفة ذلك.
ولما كان التقدير: فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة، عطف عليه مسبباً عنه قوله: {فزيلنا} أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان {بينهم} في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار: ربنا هؤلاء الذين أضلونا، وكنا ندعو من دونك {وقال شركاؤهم} لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق {ما كنتم} أي أيها المشركون، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم {إيانا تعبدون} أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة إلى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك، والشخص يجوز له أن ينفي ما يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخَهم وتهديدَهم على رؤوس الأشهادِ أفظعُ والإخبارُ بحشر الكلِّ في تهويل اليومِ أدخل، وتخصيصُ وصفِ إشراكهم بالذكر في حيز الصلةِ من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخِ والتقريعِ عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظمَ جناياتِهم وعمدةَ سيئاتِهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا لون آخر من ألوان البيان لعقيدة البعث والجزاء، وقد بينا حكمة هذا التكرار المختلف الأساليب والألوان وأمثاله في الكلام على أسلوب القرآن وإعجازه.
{ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي واذكر أيها الرسول لفريقي الناس الذين ضربنا لهم ما سبق من الأمثال، وبينا ما يعملون من الأعمال، يوم نحشرهم جميعا في موقف الحساب لا يتخلف منهم أحد، أو الظرف متعلق بقوله تعلى في الآية التالية {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ}، وفي بعض الآيات {ويوم يحشرهم وما يعبدون} [الفرقان: 17].
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي ثم نقول للمشركين منهم بعد وقوف طويل لا يخاطب فيه أحد بشيء كما تدل عليه بعض الآيات: الزموا مكانكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم.
{أَنتُمْ وشُرَكَآؤُكُمْ} أي الزموه أنتم وشركاؤكم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله لنفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم لهم، وما يقول كل منكم فيها.
{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي فرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله، وميزنا بعضهم من بعض كما يميز بين الخصوم عند الحساب، والتنزيل من زاله يزاله كناله يناله بمعنى نحاه، (وهو يائي)، وزايلته فارقته، وتزيلوا تميزوا بافتراق بعضهم من بعض، ومنه قوله في أهل مكة واختلاط مؤمنيهم بكفارهم قبل الفتح: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} [الفتح: 25]. أو المراد من التنزيل والتفريق تقطيع ما كان بنيهم في الدنيا من الصلات، وما للمشركين في الشركاء من الآمال، وكل من المعنيين صحيح، والعبادة الشركية أنواع، والمعبودات والمعبودون أنواع، يصح في بعضهم ما لا يصح في الآخر، ولذلك تكرر معنى حشر الفريقين وحسابهم في سور أخرى، بعضها في عبادة الملائكة وعبادة الجن، وبعضها في عبادة الشر، وما اتخذ لهم من التماثيل والصور، ومثلها القبور المعظمة، وسنشير إلى شواهده.
{وقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أي ما كنتم تخصوننا بالعبادة وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم، وتتخذون أسماءنا وتماثيلنا هياكل ومواسم لمنافعكم ومصالحكم، وليس هذا شأن العبودية الصادقة للمعبود الحق الذي يطاع ويعبد؛ لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق، وبيده تدبير الأمر، ومصادر النفع والضر، والمراد أنهم يتبرؤون منهم كما صرح به في آيات أخرى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإِلهي، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.
فتقول أوّلا: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم).
واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم، في حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله، لا شريكة أنفسهم.
إِنّ هذا التعبير في الحقيقة إِشارة لطيفة إِلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام...
في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: (وقال شركاؤهم ما كنتم إِيانا تعبدون) فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم، لا أنّكم كنتم تعبدوننا، ولو سلمّنا ذلك فإِنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.