معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق ، { إذ جاءتكم جنود } يعني الأحزاب ، وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة ، والنضير ، { فأرسلنا عليهم ريحاً } وهي الصبا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل ، وكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا آدم ، أنبأنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور " . قوله تعالى : { وجنوداً لم تروها } وهم الملائكة ، ولم تقاتل الملائكة يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك ريحاً باردةً فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إلي ، فإذا اجتمعوا عنده قال : النجاء النجاء ، أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال . { وكان الله بما تعملون بصيراً } .

قال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ، ومن لا أتهم ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكرة بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا ، دخل حديث بعضهم في بعض : " أن نفراً من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وهودة بن قيس وأبي عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منهم ، قال : فهم الذين أنزل الله فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } إلى قوله : { وكفى بجهنم سعيراً } فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ، فأجمعوا لذلك ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان ، فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك ، فأجابوهم . فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ، ومسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع . فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة . وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي ، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر ، فقال : يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أحكموه .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد الأصبهاني ، أنبأنا محمد بن جعفر الطبري ، حدثنا حماد بن الحسن ، حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، حدثنا كثير بن عبد الله ، عن عمرو بن عوف ، حدثني أبي عن أبيه قال : " خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً ، قال فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً ، فقال المهاجرون : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سلمان منا أهل البيت " . قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المازني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً ، فحفرنا حتى إذا كنا بجنب ذي باب أخرج الله في بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة ، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه ، قال : فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية ، فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبنا فيها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك ، فإنا لا نحب أن نتجاوز خطك ، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شق الخندق ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من يد سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوب بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرا فكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ، ثم ضربها ، فأخذ بيد سلمان ورقى ، فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال : أرأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثالثة ، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها . فأبشروا ، فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صدق ، وعدنا النصر بعد الحصر ، فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يعدكم ويمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ؟ قال فنزل القرآن : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } وأنزل الله في هذه القصة : { قل اللهم مالك الملك } الآية " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا معاوية بن عمرو ، أنبأنا أبو إسحاق ، عن حميد قال : سمعت أنساً يقول : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك عنهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع ، قال :

اللهم إن العيش عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له :

نحن الذين بايعوا محمداً *** على الجهاد ما بقينا أبدا

وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا مسلم بن إبراهيم ، أنبأنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو أغبر وهو يقول :

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى *** فأنزلن سكينةً علينا

إن الألى قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنةً أبينا

ورفع بها صوته : أبينا أبينا " . رجعنا إلى حديث ابن إسحاق ، قال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم . وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام . وخرج عدو الله حيي بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي ، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه حيي فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : يا كعب افتح لي ، فقال : ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمداً ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً . قال : ويحك افتح لي أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : والله إن أغلقت دوني إلا على حشيشتك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه . قال له كعب بن أسد : جئتني والله بذل الدهر وبجام قد هراق ماؤه برعد وبرق ، وليس فيه شيء ، فدعني ومحمداً وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً ، فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له ، على أن أعطاه من الله عهداً وميثاقاً ووفاء . لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وتبرأ مما كان عليه فيما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ، أحد بني عبد الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير ، أخو بني عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فألحنوا لي لحناً أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به جهراً للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم منهم ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا : عضل والقارة ، بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين . وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير ، أخو بني عمرو ابن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ، وحتى قال أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن قيظي : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو ، وذلك على ملأ من رجال قومه ، فائذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى . فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عمرو ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فجرى بينه وبينهم الصلح على ذلك حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، واستشارهما فيه ، فقالا : يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه ، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال : لا ، بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأخذوا منا ثمرةً واحدة إلا قرى أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ! مالنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك . فتناول سعد الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، وعدوهم محاصروهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ود ، أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس أخو بني محارب بن فهر ، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا : تهيؤوا للحرب يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد أحداً فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله ، قال له علي : يا عمرو إنك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه إحداهما ، قال : أجل ، فقال له علي بن أبي طالب : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى النزال ، قال : ولم يا ابن أخي ، فوالله ما أحب أن أقتلك ، قال علي : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك ، فاقتحم على فرسه ، فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتناولا وتجاولا ، فقتله علي ، فخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم ، فمات منه بمكة ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة ، فقال يا معشر العرب قتله أحسن من هذه ، فنزل إليه على قتله ، فغلب المسلمون على جسده ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لنا في جسده وثمنه ، فشأنكم به ، فخلى بينهم وبينه . قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة ، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة ، قد خرجت منها ذراعه كلها ، وفي يده حربة وهو يقال شعرا :

لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل *** لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت له أمه : الحق يا بني فقد والله أجزت ، قالت عائشة فقلت لها : يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي ، قالت : وخفت عليه حيث أصاب السهم منه ، قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم ، وقطع منه الأكحل ، رماه خباب بن قيس بن العرقة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال : خذها وأنا ابن العرقة ، فقال سعد : عرق الله وجهك في النار ، ثم قال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم من قوم هم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية . وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع ، حصن حسان بن ثابت ، قالت : وكان حسان معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، قالت صفية : فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، فقطعت ما بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم ، إذا أتانا آت . قالت : فقلت : يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى ، يطيف بالحصن وإني والله لم آمنه بأن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأنزل إليه فاقتله ، فقال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً اعتجرت ، ثم أخذت عموداً ، ونزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن ، فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، فقال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب . قالوا : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم . ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من بني غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديماً في الجاهلية ، فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم ، فقال لهم : إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتهم ، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان ، أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة ، إن رأوا نهزةً وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً ، حتى تناجزوه . قالوا : لقد أشرت برأي ونصح . ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمر رأيت أن حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم ، فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه : أن قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأرسل إليهم : أن نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً . ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت قال : فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم ، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان مما صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى تناجزوا محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه ، فقالوا : إن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث بعضنا فيه حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطوناً رهناً من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً ، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمون والله أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، وإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك استمروا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا والله لا نقاتل معكم حتى تأتونا رهناً ، فأبوا عليهم ، وخذل الله بينهم ، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدروهم وتطرح آنيتهم . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً . روى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، وروى غيره عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قالا : قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ، قال نعم يا بن أخي ، قال : كيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نجهد ، فقال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه ، وفعلنا وفعلنا ، فقال حذيفة : يا ابن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة ؟ فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوناً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم ، وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوناً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا حذيفة ، فلم يكن لي بد من المقام إليه حين دعاني ، فقلت : لبيك يا رسول الله ، وقمت حتى أتيته ، وإن جنبي ليضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ، ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إلي ، ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ، فأخذت سهمي ، وشددت علي سلاحي ، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل عليهم ريحاً وجنوداً وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ، ولو رميته لأصبته ، فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحدثن حدثاً حتى ترجع إلي ، فرددت سهمي في كنانتي . فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم ، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء ، قام فقال : يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت ، فقال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان ابن فلان ، فإذا هو رجل من هوازن . فقال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلكنا وهلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا منهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم . وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم . قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي ، فلما سلم أخبرته الخبر ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء ، فأدناني النبي صلى الله عليه وسلم منه ، وأنامني عند رجليه ، وألقى علي طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال : قم يا نومان .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

يعني غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة{[12722]} ، وكانت حالا شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة ، وتضمنت أحكاما كثيرة وآيات باهرات عزيزة ، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل :

الأولى : اختلف في أي سنة كانت ، فقال ابن إسحاق : كانت في شوال من السنة الخامسة . وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله : كانت وقعة الخندق سنة أربع ، وهي وبنو قريظة في يوم واحد ، وبين بني قريظة والنضير أربع سنين . قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة ، وذلك قوله تعالى : " إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر " [ الأحزاب : 10 ] . قال : ذلك يوم الخندق ، جاءت قريش من ها هنا واليهود من ها هنا والنجدية من ها هنا . يريد مالك : إن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة ، ومن أسفل منهم قريش وغطفان . وكان سببها : أن نفرا من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحيي بن أخطب النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل ، وهم كلهم يهود ، هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا ، خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك ، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك ، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم ، فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة ، والحارث بن عوف المري على بني مرة ، ومسعود بن رُخيلة على أشجع . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه ، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه . وقال المهاجرون يومئذ : سلمان منا . وقال الأنصار : سلمان منا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلمان منا أهل البيت ) . وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر . فقال : يا رسول الله ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا ، فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين ، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لواذاً{[12723]} فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره . وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره ، حتى كمل الخندق . وكانت فيه آيات بينات وعلامات للنبوات .

قلت : ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي :

الثانية : مشاورة السلطان أصحابه وخاصته في أمر القتال ، وقد مضى ذلك في " آل عمران{[12724]} ، والنمل " . وفيه التحصن من العدو بما أمكن من الأسباب واستعمالها ، وقد مضى ذلك في غير موضع . وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس ، فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ ، فالمسلمون يد على من سواهم ، وفي البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق وارى عني الغبار جلدة بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول :

اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينةً علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

وأما ما كان فيه من الآيات وهي :

الثالثة : فروى النسائي عن أبي سكينة رجل من المحررين{[12725]} عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال : " وتمت كلمة ربك صدقا " {[12726]} [ الأنعام : 115 ] الآية ؛ فندر{[12727]} ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ، ثم ضرب الثانية وقال : " وتمت " [ الأنعام : 115 ] الآية ، فندر الثلث الآخر ، فبرقت برقة فرآها سلمان ، ثم ضرب الثالثة وقال : " وتمت كلمة ربك صدقا " الآية ؛ فندر الثلث الباقي ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس . قال سلمان : يا رسول الله ، رأيتك حين ضربت ! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ذلك يا سلمان ) ؟ فقال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ! قال : ( فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني - قال له من حضره من أصحابه : يا رسول الله ، ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم{[12728]} ويخرب بأيدينا بلادهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني - قالوا : يا رسول الله ، ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضرب الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم ) . وخرجه أيضا عن البراء قال : لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال : ( باسم الله ) فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا ) قال : ثم ضرب أخرى وقال : ( باسم الله ) فكسر ثلثا آخر ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ) . ثم ضرب الثالثة وقال : ( باسم الله ) فقطع الحجر وقال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء ) . صححه أبو محمد عبد الحق .

الرابعة : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع{[12729]} في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم - في قول ابن شهاب - وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي ، وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهده ، فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له ، فقال له : افتح لي يا أخي . فقال له : لا أفتح لك ، فإنك رجل مشؤوم ، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا ، فلست بناقض ما بيني وبينه . فقال حيي : افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك . فقال : لا أفعل ؛ فقال : إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك ، فغضب كعب وفتح له . فقال : يا كعب ! إنما جئتك بعز الدهر ، جئتك بقريش وسادتها ، وغطفان وقادتها ، قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه ، فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام{[12730]} لا غيث فيه ! ويحك يا حيي ؟ دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه ، فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم ، وقال له حيي بن أخطب : إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود . فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وسيد الأوس سعد بن معاذ ، وبعث معهما عبدالله بن رواحة وخوات بن جبير ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا ، ولا تفتوا في أعضاد الناس . وإن كان كذبا فاجهروا به للناس ) فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا عهد له عندنا ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكانت فيه حدة فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم ، فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك ، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا : عضل والقارة - يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . ( أبشروا يا معشر المسلمين ) وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم ، يعني من فوق الوادي من قبل المشرق ، ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب ، حتى ظنوا بالله الظنونا ، وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون ، فمنهم من قال : إن بيوتنا عورة ، فلننصرف إليها ، فإنا نخاف عليها .

وممن قال ذلك : أوس بن قيظي . ومنهم من قال : يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط ! وممن قال : معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري ، وإلى الحارث بن عوف المري ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلان قريشا ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أو أمر تصنعه لنا ؟ قال : ( بل أمر أصنعه لكم ، والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ! ! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال : ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث : ( انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها .

الخامسة : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم ، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم ، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم ، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأوه قالوا : إن هذه لمكيدة ، ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق ، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم ، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، وأقبلت الفرسان نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا ، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله . نادى : من يبارز ؟ فبرز له علي بن أبي طالب وقال له : يا عمرو ، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما ؟ قال نعم . قال : فإني أدعوك إلى الله والإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فأدعوك إلى البراز . قال : يا ابن أخي ، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك . فقال له علي : أنا والله أحب أن أقتلك . فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه ، فعقره وصار نحو علي ، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما ، فما انجلى النقع حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه ، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين . وقال علي رضي الله عنه في ذلك :

نصرَ الحجارةَ من سفاهةِ رأيه *** ونصرتُ دين محمد بضِرَابِ{[12731]}

نازلته{[12732]} فتركته متجَدِّلاً *** كالجِذْعِ بين دَكَادكٍ ورَوَابِي{[12733]}

وعففت عن أثواب ولو أنني *** كنت المقطَّرَ بَزَّنِي أثوابِي{[12734]}

لا تحسبن الله خاذلَ دينه *** ونبيِّه يا معشر الأحزاب

قال ابن هشام : أكثر أهل العلم بالسير{[12735]} يشك فيها لعلي . قال ابن هشام : وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو ، فقال حسان بن ثابت في ذلك :

فرَّ وألقى لنا رمحه *** لعلك عِكْرِمَ لم تفعلِ

ووليت تعدو كعدو الظَّلِيمِ *** ما إن تجور عن المَعْدَلِ

ولم تُلق ظهرك مستأنسا *** كأن قفاك قَفَا فُرْعُلِ

قال ابن هشام : فرعل صغير الضباع . وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة ، وأم سعد بن معاذ معها ، وعلى سعد درع مقلصة{[12736]} قد خرجت منها ذراعه ، وفي يده حربته وهو يقول :

لبِّثْ قليلا يلحق الهَيْجَا جَمَلْ *** لا بأس بالموت إذا كان الأجلْ

ورمي يومئذ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل{[12737]} . واختلف فيمن رماه ، فقيل : رماه حبان بن قيس ابن العرقة{[12738]} ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال له : خذها وأنا ابن العرقة . فقال له سعد : عرق الله وجهك في النار . وقيل : إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان{[12739]} . وقيل : بل الذي رماه أبو أسامة الجشمي ، حليف بني مخزوم . ولحسان مع صفية بنت عبد المطلب خبر طريف يومئذ ، ذكره ابن إسحاق وغيره . قالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها : كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت ، وحسان معنا في النساء والصبيان ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدو لا يستطيعون الانصراف إلينا ، فإذا يهودي يدور ، فقلت لحسان : انزل إليه فاقتله . فقال : ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبد المطلب ! فأخذت عمودا ونزلت من الحصن فقتلته ، فقلت : يا حسان ، انزل فاسلبه ، فلم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . فقال : ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب ! قال : فنزلت فسلبته . قال أبو عمر بن عبد البر : وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السير وقالوا : لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام ، ولَهُجِيَ بذلك ابنه عبد الرحمن ، فإنه كان كثيرا ما يهاجي الناس من شعراء العرب ، مثل النجاشي وغيره .

السادسة : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي ، فمرني بما شئت . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك{[12740]} معنا فاخرج فإن الحرب خدعة ) . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان ينادمهم في الجاهلية - فقال : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودي إياكم ، وخاصة ما بيني وبينكم . قالوا : قل فلست عندنا بمتهم . فقال لهم : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة{[12741]} أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، ولا طاقة لكم به ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا . ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم : قد عرفتم ودي لكم معشر قريش ، وفراقي محمدا ، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم ، فاكتموا علي ، قالوا نفعل . قال : تعلمون أن معشر يهود ، قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا ، وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان [ رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب ]{[12742]} أعناقهم ، ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم . ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك . فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين ، أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا . فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت ، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ، فلما رجع الرسول بذلك قالوا : صدقنا والله نعيم بن مسعود ، فردوا إليهم الرسل وقالوا : والله لا نعطيكم رهنا أبدا فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم . فقال بنو قريظة : صدق والله نعيم بن مسعود . وخذل الله بينهم ، واختلفت كلمتهم ، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد ، فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم .

السابعة : فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم ، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم واستتر في غمارهم{[12743]} ، وسمع أبا سفيان يقول : يا معشر قريش ، ليتعرف كل امرئ جليسه . قال حذيفة : فأخذت بيد جليسي وقلت : ومن أنت ؟ فقال أنا فلان . ثم قال أبو سفيان : ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، ولقد هلك الكراع والخف{[12744]} وأخلفتنا بنو قريظة ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، ما يستمسك لنا بناء ، ولا تثبت لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم . قال حذيفة : ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني ، قال لي : ( مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا ) - لقتلته بسهم ، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم ، فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل - قال ابن هشام : المراجل ضرب من وشي اليمن - فأخبرته فحمد الله .

قلت : وخبر حذيفة هذا مذكور في صحيح مسلم ، وفيه آيات عظيمة ، رواه جرير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت . فقال حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك ! لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، ثم قال : ( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه أحد . فقال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم . قال : ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم{[12745]} علي ) قال : فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام{[12746]} حتى أتيتهم ، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تذعرهم علي ) ولو رميته لأصبته : فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام ، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت ، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى أصبحت ، فلما أصبحت قال : ( قم يا نومان ) . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب ، رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، على بغلة عليها قطيفة ديباج فقال له : يا محمد ، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها . إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة ، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي :

الثامنة : مناديا فنادى : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة . وقال آخرون : لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت . قال : فما عنف واحدا من الفريقين . وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين . وقد مضى بيانه في " الأنبياء " {[12747]} . وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه . اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة . وروى ابن وهب عن مالك قال : بلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم{[12748]} ( فارع ){[12749]} ، وعليه درع مقلصة{[12750]} مشمر الكمين ، وبه أثر صفرة وهو يرتجز :

لبِّثْ قليلا يدرك الهَيْجَا جمل *** لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت عائشة رضي الله عنها : لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه ، فأصيب في أكحله . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأصيب في أكحله ثم قال : اللهم إن كان حرب قريظة لم يبق منه شيء فاقبضني إليك ، وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه ، فلما حكم في بني قريظة توفي ، ففرح الناس وقالوا : نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته .

التاسعة : ولما خرج المسلمون إلى بني قريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم ، فسمعوا سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فانصرف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، لا تبلغ إليهم ، وعرض له . فقال له : ( أظنك سمعت منهم شتمي . لو رأوني لكفوا عن ذلك ) ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا . فقال لهم : ( نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ) فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة . وعرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا أيها شاؤوا : إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا . قال : وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم ، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوبا في كتابكم . وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا ، فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم . وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا . فقالوا له : أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة ، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم ، ونحن لا نتعدى في السبت . ثم بعثوا إلى أبي لبابة ، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس ، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له : يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال نعم ، - وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن فعلتم . ثم ندم أبو لبابة في الحين ، وعلم أنه خان الله ورسوله ، وأنه أمر لا يستره الله عليه عن نبيه صلى الله عليه وسلم . فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة . قال ابن عيينة وغيره : فيه نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " {[12751]} [ الأنفال : 27 ] الآية . وأقسم ألا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه الذنب . فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أبي لبابة قال : ( أما إنه لو أتاني لاستغفرت له ، وأما إذ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى ) فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة : " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " {[12752]} [ التوبة : 102 ] الآية . فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه ، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ، وقد علمت أنهم حلفاؤنا ، وقد أسعفت{[12753]} عبد الله بن أبي ابن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج ، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا ، فهم موالينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم - قالوا بلى . قال - : فذلك إلى سعد بن معاذ ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق . فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية والنساء ، وتقسم أموالهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة ){[12754]} . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم - زمن ابن إسحاق - فخندق بها خنادق ، ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، وقتل يومئذ حيي بن أخطب وكعب بن أسد ، وكانا رأس القوم ، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة . وكان على حيي حلة فقاحية{[12755]} قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة ، أنملة أنملة لئلا يسلبها . فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ،

*ولكنه من يخذل الله يخذل*

ثم قال : يا أيها الناس ، لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة{[12756]} كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه . وقتل من نسائهم امرأة ، وهي بنانة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد ابن سويد فقتلته . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم ينبت . وكان عطية القرظي ممن لم ينبت ، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مذكور في الصحابة . ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم . منهم عبد الرحمن بن الزبير أسلم وله صحبة . ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس ، أخت سليط بن قيس من بني النجار ، وكانت قد صلت إلى القبلتين ، فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال : أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا - وكانت له عنده يد - وقال : قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي ، قال : ذلك يفعل الكريم بالكريم ، ثم قال : وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل ؟ قال : فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأعطاه أهله وولده ، فأتى فأعلمه فقال : كيف يعيش رجل لا مال له ؟ فأتى ثابت النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله ، فرجع إليه فأخبره ، قال : ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية ؟ قال : قتل . قال : فما فعل المجلسان ، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : قتلوا . قال : فما فعلت الفئتان ؟ قال : قتلتا . قال : برئت ذمتك ، ولن أصب فيها دلوا أبدا ، يعني النخل ، فألحقني بهم ، فأبى أن يقتله فقتله غيره . واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه .

العاشرة : وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما . وقد قيل : للفارس سهمان وللراجل سهم . وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا . ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة{[12757]} أحد بني عمرو بن قريظة ، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل ، وأول غنيمة جعل فيها الخمس . وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبد الله بن جحش ؛ فالله أعلم . قال : أبو عمر : وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " {[12758]} [ الأنفال : 41 ] الآية . وكان عبد الله بن جحش قد خمس قبل ذلك في بعثه ، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله ، وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه ، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة . فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ ، فانفجر جرحه ، وانفتح عرقه ، فجرى دمه ومات رضي الله عنه . وهو الذي أتى الحديث فيه : ( اهتز لموته عرش الرحمن ) يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له . وقال ابن القاسم عن مالك : حدثني يحيى بن سعيد قال : لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ، ما نزلوا إلى الأرض قبلها . قال مالك : ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة .

قلت : الذي استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر فيما ذكر أهل العلم بالسير : سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبد الأشهل ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وكلاهما أيضا من بني عبد الأشهل ، والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة{[12759]} ، وكلاهما من بني سلمة ، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار ، أصابه سهم غرب{[12760]} فقتله ، رضي الله عنهم . وقتل من الكفار ثلاثة : منبه بن عثمان ابن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم مات منه بمكة . وقد قيل : إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق . ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل ، وغلب المسلمون على جسده ، فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فقال : ( لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ) فخلى بينهم وبينه . وعمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي مبارزة ، وقد تقدم . واستشهد يوم قريظة من المسلمين خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج ، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته . ومات في الحصار أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي ، أخو عكاشة بن محصن ، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم . ولم يصب غير هذين ، ولم يغز كفار قريش المؤمنين بعد الخندق . وأسند الدارمي أبو محمد في مسنده : أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي{[12761]} من الليل حتى كفينا ، وذلك قول الله عز وجل : " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا " [ الأحزاب : 25 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها ، ثم أمره فأقام العصر فصلاها ، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها ، ثم أمره فأقام العشاء فصلاها ، وذلك قبل أن ينزل : " فإن خفتم فرجالا{[12762]} أو ركبانا " [ البقرة : 239 ] خرجه النسائي أيضا . وقد مضت هذه المسألة في " طه " {[12763]} . وقد ذكرنا في هذه الغزاة أحكاما كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر . ثم نرجع إلى أول الآي وهي تسع عشرة آية تضمنت ما ذكرناه .

قوله تعالى : " إذ جاءتكم جنود " يعني الأحزاب . " فأرسلنا عليهم ريحا " قال مجاهد : هي الصبا ، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم . قال : والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ . وقال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت الشمال : إن محوة{[12764]} لا تسري بليل . فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وكانت هذه الريح معجزة للنبي الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها ، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق ، وكانوا في عافية منها ، ولا خبر عندهم بها . " وجنودا لم تروها " وقرئ بالياء ، أي لم يرها المشركون . قال المفسرون : بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وأرسل الله عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر ، حتى كان سيد كل خباء يقول : يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا قال لهم : النجاء النجاء ؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب . " وكان الله بما تعملون بصيرا " وقرئ : " يعملون " بالياء على الخبر ، وهي قراءة أبي عمرو . الباقون بالتاء ، يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو .


[12722]:سميت غزوة الخندق لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما تسميتها بالأحزاب: فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش وغطفان واليهود.
[12723]:أي مستخفين ومستترين بعضهم ببعض.
[12724]:راجع ج 4 ص 249 فما بعد. و ج 13 ص 194.
[12725]:أي المعتق من النار.
[12726]:راجع ج 7 ص 71.
[12727]:ندر: سقط.
[12728]:في النسائي:" ديارهم".
[12729]:سلع: جبل بالمدينة.
[12730]:الجهام: السحاب لا ماء فيه.
[12731]:في سيرة ابن هشام: " بصوابي".
[12732]:في سيرة ابن هشام:" فصددت حين تركته...".
[12733]:المتجدّل: اللاصق بالأرض. الدكادك: جمع دكداك، وهو الرمل اللين. والروابي: جمع رابية، وهو ما ارتفع من الأرض.
[12734]:المقطر: الذي ألقى على أحد قطريه، أي جنبيه. وبزني: سلبني وجردني.
[12735]:في سيرة ابن هشام:" بالشعر".
[12736]:مقلصة: مجتمعة منضمة.
[12737]:الأكحل: عرق في وسط الذراع.
[12738]:العرقة (بفتح العين وكسر الراء): أم حبان، واسمها قلابة بنت سعيد بن سعد تكنى أم فاطمة، وسميت العرقة لطيب ريحها، وهي جدّة خديجة.
[12739]:في الأصول:" جبارة" والتصويب عن سيرة ابن هشام وشرح المواهب.
[12740]:في ك:" أن تقاتل معنا". وفي ج:" مقامك". قوله:" خدعة" في النهاية لابن الأثير: " يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال. فالأوّل معناه: إن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة من الخداع، أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة. وهي أفصح الروايات وأصحها. ومعنى الثاني: هو الاسم من الخداع. ومعنى الثالث: أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة، أي كثير اللعب والضحك.
[12741]:النهزة: الفرصة تجدها من صاحبك.
[12742]:ما بين المربعين كذا ورد في ك. والذي في ج، ش:"...وغطفان رهنا رجالا ونسلمهم".
[12743]:مثلث الغين.
[12744]:الكراع: اسم يجمع الخيل. والخف: اسم يجمع الإبل.
[12745]:الذعر: الفزع، يريد لا تعلمهم بنفسك وامش في خفية لئلا ينفروا منك ويقبلوا عليّ.
[12746]:يقول: كأنما أمشي في حرّ لم يصبني برد ولا من تلك الريح الشديدة شيء ببركة توجيه النبي صلى الله عليه وسلم.
[12747]:راجع ج 11 ص 311.
[12748]:الأطم: حصن مبني بحجارة.
[12749]:في الأصول:" في الأطم الذي فارع". وفارع: حصن بالمدينة، قال إنه حصن حسان بن ثابت.
[12750]:مقلصة: مجتمعة منضمة.
[12751]:راجع ج 7 ص 394.
[12752]:راجع ج 8 ص 242.
[12753]:الإسعاف: قضاء الحاجة.
[12754]:أرقعة جمع رقيع، والرقيع السماء، سميت بذلك لأنها رقعت النجوم.
[12755]:أي بلون الورد حين أن يتفتح.
[12756]:الملحمة: الوقعة العظيمة القتل.
[12757]:ويقال: فيه "خنافة" بالخاء المعجمة.
[12758]:راجع ج 8 ص 1.
[12759]:في المواهب اللدنية والإصابة:" ثعلبة بن عنمة بفتح العين المهملة والنون".
[12760]:قال ابن هشام:" سهم غرب، وسهم غرب (بإضافة وغير إضافة) وهو الذي لا يعرف من أين جاء ولا من رمى به".
[12761]:الهوى (بالفتح): الزمان الطويل.
[12762]:راجع ج 3 ص 223.
[12763]:راجع ج 11 ص 180.
[12764]:محوة: من أسماء الشمال؛ لأنها تمحو السحاب وتذهب بها، وهي معرفة لا تنصرف، ولا تدخلها ألف ولام.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

ولما أكد سبحانه وجوب الصدع بكل أمره وإن عظمت مشقته وزادت حرقته من غير ركون إلى مؤالف{[55107]} موافق ، ولا اهتمام بمخالف مشاقق{[55108]} ، اعتماداً على تدبيره ، وعظيم أمره في تقديره ، ذكرهم بدليل شهودي هو أعظم وقائعهم في حروبهم ، وأشد ما دهمتهم من كروبهم{[55109]} ، فقال معلماً أن المقصود بالذات بما مضى من{[55110]} الأوامر الأمة - وإنما وجه الأمر إلى الإمام{[55111]} ليكون أدعى لهم إلى الامتثال فإن الأمر للنبي{[55112]} صلى الله عليه وسلم تكويني بمنزلة ما يقول الله تعالى له { كن } فحقيقته الإرادة لا الأمر ، والأمر للذين آمنوا تكليفي{[55113]} . وقد يراد منهم{[55114]} ما يؤمرون{[55115]} به وقد لا يراد ، وللناس احتجاجي أي تقام{[55116]} به عليهم الحجة ، ومن المحقق أن بعضهم يراد منه{[55117]} خلاف المأمور به : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ، عبر به ليعم المنافقين { اذكروا } ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال : { نعمة الله } عبر بها لأنها المقصودة بالذات والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له { عليكم } أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان ، فإن الله كافيكم كل{[55118]} ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال : { إذ } أي حين { جاءتكم } أي{[55119]} في غزوة الخندق حين اجتمعت عليكم الأحزاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم ضربه حين سمع بهم بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على جانبي سلع من{[55120]} شماليه ، وخطه وقطع لكل عشرة رجال أربعين{[55121]} ذراعاً ، وكانوا ثلاثة آلاف ، فكان الخندق اثني عشر ألف ذراع { جنود } وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من {[55122]}الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب ، ومن انضم من{[55123]} قبائل العرب من بني سليم يقودهم أبو الأعور ، ومن بني عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، ومن غطفان يقودهم عيينة بن حصن ، ومن بني أسد يقودهم طليحة بن خويلد ، ومن أسباط بني إسرائيل من اليهود ومن بني النضير ورؤساهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وهم الذين جمعوا الأحزاب بسبب إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير من المدينة الشريفة ، وأفسدوا أيضاً بني قريظة ، وكانوا بالمدينة الشريفة وسيدهم كعب بن أسد ، فكان الجميع اثني عشر الفاً ، وكانوا واثقين في زعمهم بأنهم{[55124]} لا يرجعون وقد بقي للإسلام باقية ، ولا يكون لأحد من أهله منهم{[55125]} واقية .

ولما كان مجيء الجنود مرهباً ، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال : { فأرسلنا } أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم{[55126]} من سهولة الوصول إليكم ، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة { عليهم } أي خاصة { ريحاً } وهي ربح{[55127]} الصبا ، فأطفأت نيرانهم .

وأكفأت قدورهم وجفانهم ، وسفت التراب في وجوههم ، ورمتهم بالحجارة وهدت{[55128]} خيامهم ، وأوهنت ببردها عظامهم ، وأجالت خيلهم { وجنوداً لم تروها } يصح أن تكون الرؤية بصرية وقلبية ، منها من البشر نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه هداه الله للإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنه لم يعلم أحد{[55129]} بإسلامي ، فمرني يا رسول الله بأمرك ! فقال : " إنما أنت فينا رجل واحد والحرب خدعة ، فخذل عنا{[55130]} مهما استطعت " فأخلف{[55131]} بين اليهود وبين العرب بأن قال لليهود وكانوا أصحابه : إن هؤلاء - يعني العرب - إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين . وليس حالكم كحالهم ، البلد بلدكم وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم ، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ليكونوا عندكم{[55132]} حتى تناجزوا الرجل ، فإنه ليس لكم به طاقة إذا انفرد بكم ، فقالوا : أشرت بالرأي ، فقال : فاكتموا عني ، وقال لقريش : قد علمتم صحبتي لكم وفراقي لمحمد ، وقد سمعت أمراً ما أظن {[55133]}أنكم تتهمونني{[55134]} فيه ، فقالوا : ما أنت عندنا بمتهم ، قال : فاكتموا عني{[55135]} ، قالوا : نفعل ، قال : إن اليهود قد ندموا على نقض ما بينهم وبين محمد وأرسلوا إليه : إنا قد ندمنا فهل ينفعنا عندك{[55136]} أن نأخذ لك من القوم جماعة من أشرافهم تضرب أعناقهم ، ونكون معك على بقيتهم ، حتى تفرغ منهم{[55137]} لتكف{[55138]} عنا . وتعيد لنا الأمان ، قال : نعم ، فإن أرسلوا إليكم فلا{[55139]} تدفعوا إليهم رجلاً واحداً ، ثم أتى غطفان فقال : إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ، قالوا : صدقت ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش واستكتمهم ، فأرسلت إليهم قريظة يطلبون منهم رهناً فقالوا{[55140]} : صدق نعيم ، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحداً{[55141]} ، فقالت قريظة : صدق نعيم ، فتخاذلوا واختلفت كلمتهم ، فانكسرت شوكتهم ، وبردت حدتهم ، ومنها{[55142]} من الملائكة جبرائيل عليه السلام ومن أراد الله منهم - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ، والتحية والإكرام ، فكبروا في نواحي عسكرهم ، وزلزلوا بهم{[55143]} ، وبثوا الرعب في قلوبهم ، فماجت خيولهم ، واضمحل قالهم وقيلهم ، فكان في ذلك رحيلهم ، بعد نحو أربعين يوماً أو بضع وعشرين - على ما قيل .

ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية ، فصلها فقال{[55144]} ذاكراً الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيراً{[55145]} : { وكان الله } الذي له جميع صفات {[55146]}الكمال و{[55147]}الجلال والجمال { بما يعملون } أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد السيىء - على قراءة البصري{[55148]} ، وأنتم أيها المسلمون من حفر الخندق وغيره من الصدق في الإيمان وغيره{[55149]} - على قراءة الباقين { بصيراً } بالغ الإبصار والعلم ، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين ولم ينفع أهل الشرك قوتهم ، ولا أغنت عنهم كثرتهم ، ولا ضر المؤمنين قلتهم ، وجعلنا ذلك سبباً لإغنائهم{[55150]} بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم - كما سيأتي ؛


[55107]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مألوف.
[55108]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: متشاقق.
[55109]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ركوبهم.
[55110]:زيد من ظ وم ومد.
[55111]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: إمام.
[55112]:في ظ ومد: إلى النبي.
[55113]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تكليفا.
[55114]:زيد من ظ وم ومد.
[55115]:من م ومد، وفي الأصل وظ: يأمرون.
[55116]:من م ومد، وفي الأصل وظ: مقام.
[55117]:في ظ: منهم.
[55118]:سقط من ظ ومد.
[55119]:زيد من ظ وم ومد.
[55120]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: من.
[55121]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أربعون.
[55122]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[55123]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[55124]:من م ومد، وفي الأصل وظ: أنهم.
[55125]:زيد من ظ وم ومد.
[55126]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ليمنعكم.
[55127]:سقط من ظ.
[55128]:من م ومد، وفي الأصل وظ: هدمت.
[55129]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أحدا.
[55130]:في ظ: عنها.
[55131]:زيد في الأصل: بيتك، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[55132]:في ظ: عندك.
[55133]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أن تتهموني.
[55134]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أن تتهموني.
[55135]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: على.
[55136]:زيد من ظ وم ومد.
[55137]:زيد من ظ وم ومد.
[55138]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: وتكف.
[55139]:في ظ ومد: لا.
[55140]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فقال.
[55141]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: رجلا واحدا.
[55142]:في ظ: منهم.
[55143]:زيد من ظ وم ومد.
[55144]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: وقال.
[55145]:زيد من ظ وم ومد.
[55146]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[55147]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.
[55148]:راجع نثر المرجان 5/379و 380.
[55149]:زيد من ظ وم ومد.
[55150]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لإفنائهم.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 9 ) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا }

المراد بذلك غزوة الخندق والأحزاب . وفي الآية هذه إخبار من الله عما أنعم به على عباده المؤمنين ؛ إذ أعقبهم نصرا من عنده ونجاة وتوفيقا بعد ما نزل بهم من بالغ الحرج وشديد الكرب والخوف . فقد تألب عليهم الكافرون وتحزَّبوا عام الخندق . وذلك في شوال عام خمسة من الهجرة وهو المشهور . وكان سبب قدوم الأحزاب أ فرا من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلوا من المدينة إلى خيبر منهم سلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع ، خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألَّبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوهم أن يناصروهم ويعينوهم ، وظلوا يحرضونهم على ذلك حتى أجابوهم فخرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم كذلك . وخرجت قريش في أحابيشها وأتباعها بقيادة أبي سفيان صخر بن حرب . وكانوا جميعا عشرة آلاف رجل . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرتهم إليه أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق ، وذلك بإشارة من سلمان الفارسي ( رضي الله عنه ) فعمل فيه المسلمون جادين مجتهدين ، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر . ثم جاء المشركون ونزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة . وهو قوله سبحانه وتعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف رجل وقيل : سبعمائة . وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري فلم يَزلْ بهم حتى نقضوا العهد ومالأوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعظم الخطبُ على المسلمين واشتد الأمر وضاق بهم الحال ضيقا عظيما وأحاط بهم من لكروب والأهوال ما أحاط . ويدل على ذلك قوله سبحانه : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا } .

وفي مثل هذه الأحوال من اشتداد الكروب والأهوال تتجلى همم الرجال وعزائم الأبطال . فهم الصحابة الغُرُّ الأشاوس التفوا من حول رسول لله صلى الله عليه وسلم ثابتين صابرين ، وهم يتحدَّون المخاطر وكيد الظالمين والمتربصين والخائنين . وحينئذ يستبين الخائرون الخاسرون وهم المنافقون الذي تنثني صدورهم على الغش والخيانة للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم . فقد نكص هؤلاء المنافقون على أعقابهم وجعلوا يتسللون لواذا . ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون محاصرين في المدينة قريبا من شهر دون أن يصلهم المشركون ، ولم يقع بينهم قتال إلا أن عمرو بن عبد وَدّ العامري ، وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية ، قد ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق ونفذوا إلى ناحية المسلمين فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه . ويقال إنه لم يبرز إليه أحد . فأمر عليّا ( رضي الله عنه ) فخرج إليه فتجاولا ساعة فقتله علي ( رضي الله عنه ) وكان ذلك علامة النصر .

ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحا شديدة عاصفة فلم يبق لهم خيمة ولا شيئا إلا قلبته أو أكفأته . وبذلك لم يستقر لهم قرار فبادروا للرحيل خائبين خاسرين . وفي ذلك يقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } والمراد بالجنود غير المرئية ، الملائكة فقد بعثها الله على هؤلاء الظالمين لتمزيق صنعهم وتبديد شملهم فقلعوا أوتاد بيوتهم وقطعوا فساطيطهم ، وأطفئوا قدورهم ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وتعالت في المعسكرات صيحات الملائكة وهي تردد ، الله أكبر . حتى كان سيد كل خباء{[3699]} يقول : يا بني فلان هلم إلي . فإذا اجتمعوا قال لهم : النجاء النجاء{[3700]} . وذلك بما بعث الله عليهُم من الرعب .

قوله : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } الله عليهم بأعمال المسلمين لما تمالأت عليهم أحزاب الكفر والباطل . والمراد بأعمالهم صبرهم على كيد المعتدين وعلى ما كانوا فيه من الجهد والشدة ، وما كانوا عليه من الثبات وفرط الشجاعة واشتداد العزم في وجه أعدائهم الظالمين . الله تعالى بصير بذلك كله ولا تخفى عليه منه خافية .


[3699]:الخباء: ما يُعمل من وبر أو صوف وقد يكون من شعر. وجمعه أخبية. ويكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. المصباح المنير ج 1 ص 175
[3700]:النجاء: اسم للفعل نجا ينجو من الهلاك نجاة. أي خلص. لمصباح المنير ج 2 ص 175