السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

ثم حقق الله تعالى ما سبق لهم من الأمر بتقوى الله تعالى بحيث لا يبقى معه الخوف من أحد بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا } ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم بقوله تعالى : { نعمة الله } أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له { عليكم } أي : لتشكروه عليها بالنفوذ ، لأمره وعبر بالنعمة ؛ لأنها المقصودة بالذات ، والمراد إنعامه يوم الأحزاب وهو يوم الخندق ، ثم ذكر وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها بقوله تعالى : { إذ } أي : حين { جاءتكم جنود } أي : الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام { فأرسلنا } أي : تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم أرسلنا { عليهم ريحاً } وهي ريح الصبا قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور » لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه { وجنوداً } أي : وأرسلنا جنوداً من الملائكة { لم تروها } وكانوا ألفاً ولم تقاتل يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها على بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إليَّ ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا : النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب { وكان الله } أي : الذي له جميع صفات الجلال والجمال { بما يعملون } أي : الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك { بصيراً } أي : بالغ الإبصار والعلم .

تنبيه : قال البخاري : قال موسى بن عقبة : كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع ، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال : دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه ؟ قالوا : دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت والطاغوت } ( النساء : 51 )

إلى قوله تعالى : { وكفى بجهنم سعيراً } ( النساء ، 55 ) فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك ، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة ، وكان الذي أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حُرٌّ فقال : يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أكملوه وأحكموه ، قال أنس رضي الله عنه : «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجزع قال :

اللهم إن العيش عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا مجيبين له :

نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما بقينا أبدا

قال البراء : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرَّ بطنه وهو يقول :

والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوت أبينا أبينا*** . . . . . . . . . . . . . . . . .

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش في عشرة آلاف من الأحابيش ، وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة ، وأقبلت غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن ، وعامر بن الطفيل من هوازن ، وانضافت لهم اليهود من قريظة والنضير حتى نزلوا إلى جانب أحد .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة .