التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 9 ) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا }

المراد بذلك غزوة الخندق والأحزاب . وفي الآية هذه إخبار من الله عما أنعم به على عباده المؤمنين ؛ إذ أعقبهم نصرا من عنده ونجاة وتوفيقا بعد ما نزل بهم من بالغ الحرج وشديد الكرب والخوف . فقد تألب عليهم الكافرون وتحزَّبوا عام الخندق . وذلك في شوال عام خمسة من الهجرة وهو المشهور . وكان سبب قدوم الأحزاب أ فرا من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلوا من المدينة إلى خيبر منهم سلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع ، خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألَّبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوهم أن يناصروهم ويعينوهم ، وظلوا يحرضونهم على ذلك حتى أجابوهم فخرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم كذلك . وخرجت قريش في أحابيشها وأتباعها بقيادة أبي سفيان صخر بن حرب . وكانوا جميعا عشرة آلاف رجل . فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرتهم إليه أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق ، وذلك بإشارة من سلمان الفارسي ( رضي الله عنه ) فعمل فيه المسلمون جادين مجتهدين ، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر . ثم جاء المشركون ونزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة . وهو قوله سبحانه وتعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف رجل وقيل : سبعمائة . وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري فلم يَزلْ بهم حتى نقضوا العهد ومالأوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعظم الخطبُ على المسلمين واشتد الأمر وضاق بهم الحال ضيقا عظيما وأحاط بهم من لكروب والأهوال ما أحاط . ويدل على ذلك قوله سبحانه : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا } .

وفي مثل هذه الأحوال من اشتداد الكروب والأهوال تتجلى همم الرجال وعزائم الأبطال . فهم الصحابة الغُرُّ الأشاوس التفوا من حول رسول لله صلى الله عليه وسلم ثابتين صابرين ، وهم يتحدَّون المخاطر وكيد الظالمين والمتربصين والخائنين . وحينئذ يستبين الخائرون الخاسرون وهم المنافقون الذي تنثني صدورهم على الغش والخيانة للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم . فقد نكص هؤلاء المنافقون على أعقابهم وجعلوا يتسللون لواذا . ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون محاصرين في المدينة قريبا من شهر دون أن يصلهم المشركون ، ولم يقع بينهم قتال إلا أن عمرو بن عبد وَدّ العامري ، وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية ، قد ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق ونفذوا إلى ناحية المسلمين فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه . ويقال إنه لم يبرز إليه أحد . فأمر عليّا ( رضي الله عنه ) فخرج إليه فتجاولا ساعة فقتله علي ( رضي الله عنه ) وكان ذلك علامة النصر .

ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحا شديدة عاصفة فلم يبق لهم خيمة ولا شيئا إلا قلبته أو أكفأته . وبذلك لم يستقر لهم قرار فبادروا للرحيل خائبين خاسرين . وفي ذلك يقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } والمراد بالجنود غير المرئية ، الملائكة فقد بعثها الله على هؤلاء الظالمين لتمزيق صنعهم وتبديد شملهم فقلعوا أوتاد بيوتهم وقطعوا فساطيطهم ، وأطفئوا قدورهم ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وتعالت في المعسكرات صيحات الملائكة وهي تردد ، الله أكبر . حتى كان سيد كل خباء{[3699]} يقول : يا بني فلان هلم إلي . فإذا اجتمعوا قال لهم : النجاء النجاء{[3700]} . وذلك بما بعث الله عليهُم من الرعب .

قوله : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } الله عليهم بأعمال المسلمين لما تمالأت عليهم أحزاب الكفر والباطل . والمراد بأعمالهم صبرهم على كيد المعتدين وعلى ما كانوا فيه من الجهد والشدة ، وما كانوا عليه من الثبات وفرط الشجاعة واشتداد العزم في وجه أعدائهم الظالمين . الله تعالى بصير بذلك كله ولا تخفى عليه منه خافية .


[3699]:الخباء: ما يُعمل من وبر أو صوف وقد يكون من شعر. وجمعه أخبية. ويكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. المصباح المنير ج 1 ص 175
[3700]:النجاء: اسم للفعل نجا ينجو من الهلاك نجاة. أي خلص. لمصباح المنير ج 2 ص 175