بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : احفظوا منة الله عليكم بالنصرة . { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } يعني : الأحزاب . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكونوا عليه ، ولا معه . فنقضت بنو النضير عهودهم ، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم منها ، وذكر قصتهم في سورة الحشر . ثم إنّ بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن حيي بن أخطب ركب ، وخرج إلى مكة . فقال لأبي سفيان بن حرب : إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلاً . فحثّه على الخروج إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك . ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك . فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة ، وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريباً من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل . ويقال : ثمانية عشر ألف رجل . ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة ، فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة . فاستأذن عليه . فقال لجاريته : انظري من هذا ؟ فعرفته الجارية فقالت : هذا حيي بن أخطب . فقال : لا تأذني له عليّ . فإنه مشؤوم إنه قد شام قومه ، يريد أن يشأمنا زيادة . فقالت له الجارية : ليس هاهنا ، فقال حيي بن أخطب : بلى هو ثم ولكن عنده قدر جشيش لا يحب أن يشركه فيها أحد . فقال كعب : أحفظني أخزاه الله ، يعني : أغضبني ، إئذني له في الدخول . فدخل عليه ، فقال له : يجيئُك مليكك ، قد جئتك بعارض برد ، جئتك بقريش بأجمعها ، وكنانة بأجمعها ، وغطفان بأجمعها ، لا يذهب هذا الفوز حتى يقتل محمد . فانقض الحلف بينك وبين محمد . فقال له كعب بن الأشرف : إن العارض ليصيب بنفحاته شيئاً . ثم يرجع وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي ، والله ما رأينا جاراً قط خيراً من محمد ، ما أخفر لنا بذمة ، ولا هتك لنا ستراً ولا آذانا ، وإنما أخشى أن لا يقتل محمد ، وترجع أنت وأقتل أنا . فقال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمداً في هذا الغور ، لأدخلنّ معكم حصنكم ، فيصيبني ما أصابكم . فنقض الحلف ، وشقّ الصحيفة ، فقدم بنعيم بن مسعود المدينة ، وكان تاجراً يقدم من مكة . فقال : يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بذلك » . فقال عمر : إن كنت أمرتهم بذلك ، وإن كنت تأمرهم بذلك ، فقتالهم علينا هيّن " . فقال : «مَا أَنا بِكَذَّابٍ ، ولكن الحَرْبَ خُدْعَةٌ » . ونعيم لم يسلم ذلك اليوم . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف ، يناشدوه الله الحلف الذي كان بينهم . وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل . فأبى كعب بن الأشرف ، وجرى بينهم كلام . وسبّ سعد بن معاذ . فقال أسيد بن حضير : أتسب سيدك معاذاً يا عدو الله ؟ ما هو لك بكفؤ . فقال سعد بن : اللهم لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم . فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث .

فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان فقال : يا أبا سفيان والله ما كذب محمد قط كذبة ، أخبرني بأنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة . فقال سلمان الفارسي : إنا كنا يا رسول الله بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود ، خندقنا على أنفسنا ، فهل لك أن تخندق خندقاً ؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة ، وخندق وأخذ المعول بيده ، فضرب لكي يقتدي الناس به . فضرب ضربةً فأبرق برقة ، حتى ظهر ضوء بضربته . ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة ، ثم ضرب الثالثة فقال سلمان : لقد رأيت أمراً عجيباً . لقد رأيت ذلك ؟ قال : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ رَأَيْتُ بِالأولى قُصُورَ الشَّامِ ، وَبِالثَّانِيَةِ قُصُورَ كِسْرَى ؛ وَبِالثَّالِثَةِ قُصُورَ اليَمَنِ . فهذه فُتُوحٌ يَفْتَحُ الله عَلَيْكُمْ » . فقال ناس من المنافقين : يعدنا أن تفتح الشام وأرض فارس واليمن . وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء . ما يعدنا إلا غروراً .

فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة ، فأرسل عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة ، نرجع عنك بغطفان وكنانة ، ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا » . فقال : فنصف ذلك التمر . قال : «نعم » . وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس ، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصين ، والحارث بن عوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب لنا كتاباً . فدعى بصحيفة ليكتب بينهم . فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة : يا رسول الله أوحي إليك في هذا شيء ؟ فقال : «لا ولكنني رَأَيْتُ العَرَبَ رَمَتْكُمْ مِنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَقُلْتُ أَرُدُّ هؤلاء وَأُقَاتِلُ هؤلاء » فقالا : ما رجون بهذا منها في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا شراء وقرًى . فحين زادنا الله بك ، وأمدنا بك ، وأكرمنا بك ، نعطيهم الدنية . لا نعطيهم شيئاً إلا بالسيف . فشق النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة وقال : «اذْهَبُوا فَلا نُعْطِيكُمْ شَيْئاً إلاَّ بِالسَّيْفِ » . فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حييّ بن أخطب أن استعدَّ غداً إلى القتال فقد طال المقام هاهنا ، وقل لقومك يغدوا . فلما جاء بني قريظة الرسول ، فقالوا : غداً يوم السبت لا نقاتل فيه . فقال أبو سفيان : نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد . هاتوا لنا رهوناً أبناءكم نثلج إليهم يعني : نطمئن بذلك . فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة ، وقد أمسوا ، فقالوا : هذه الليلة لا يدخل علينا أحد ولا يخرج من عندنا أحد . فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه حق ، وأن نقض العهد كان مكراً منهم .

فلما كانت الليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال : «مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ القَوْمُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ » . فما تحرك منهم أحد . ثم صلى الثلث الثاني فقال : «من رجل ينظر ما يفعل القوم » فما تحرك منهم أحد ثم صلى ساعة ، ثم هتف مرة أخرى ، فما تحرك منهم إنسان . فقال : «يَا حُذَيْفَةُ » فجاء حذيفة . فقال : «أَمَا سَمِعْتَ كَلامِي مُنْذُ اللَّيْلَة » . قال : بلى . ولكن بي من الجوع والقر يعني : البرد ، لم أقدر على أن أجيبك . قال : «اذْهَبْ فَانْظُرْ ما فَعَلَ القَوْمُ ، وَلاَ تَرْمِي بِسَهْمٍ ، وَلاَ بِحَجَرٍ ، وَلاَ تَطْعَنْ بِرمْحٍ ، وَلاَ تَضْرِبْ بِسَيْفٍ » . فقال : يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني ، إني لميت . ولكن أخشى أن يمثلوا بي . فقال : «لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ » . فلما قال هذا ، قال حذيفة : آمنت وعرفت أنه لا بأس علي . فلما ولى حذيفة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ » . فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش ، فإذا هم يصطلون يعني : مجتمعين على نار لهم . فجلس حذيفة في حلقة منهم . فقال : أتدرون ما يريد الناس غداً ؟ قالوا : ماذا يريدون ؟ قال : يقولون : يعني : أهل العساكر أين قريش ؟ أين سادات الناس وقادتهم ؟ فتجيئون فيطرحونكم في نحور العدو ، فتقتلوا أو تفروا ، فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر .

ثم دخل عسكر بني كنانة . فقال : أتدرون ماذا يريد الناس غداً ؟ قالوا : ماذا يريدون ؟ قال : يقولون أين بنو كنانة ؟ أين ذروة العرب ؟ أين رماة الخندق ؟ فتجيبون . فيطرحونكم في نحور العدو ؟ فتقتلوا أو تفروا .

ثم دخل عسكر غطفان ، فقال : أتدرون ماذا يريد الناس غداً ؟ قالوا ماذا يريدون ؟ قال : يقولون أين غطفان ؟ أين بنو فزارة بن حلاس الخيول ؟ فتجيبوا ، فيطرحونكم في نحور العدو . فتقتلوا أو تفروا .

قال : فبعث الله تعالى عليهم ريحاً شديدة ، فلم تترك لهم خباء إلا قلعته ، ولا إناء إلا أكفأته . وقلعت أوتاد خيولهم ، وجالت الخيول بعضها في بعض ، فقالوا فيما بينهم : لقد بدا محمد بالسر . فالنجاة النجاة . فركب أبو سفيان جمله معقولاً ، فما حلّ عقاله إلا بعد أن انبعث . قال حذيفة : ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت . ولكن نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فترحلوا كلهم وذهبوا . فرجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل الله عز وجل بها . فنزل { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } في الدفع عنكم { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } من المشركين { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } شديدة { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } من الملائكة . وذلك أن الملائكة عليهم السلام كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح ، وهي ريح الصبا . وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «نُصِرْتُ بِالصَّبَا ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ » ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } في أمر الخندق .