قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } يعني : احفظوا منة الله عليكم بالنصرة . { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } يعني : الأحزاب . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ، صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكونوا عليه ، ولا معه . فنقضت بنو النضير عهودهم ، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم منها ، وذكر قصتهم في سورة الحشر . ثم إنّ بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن حيي بن أخطب ركب ، وخرج إلى مكة . فقال لأبي سفيان بن حرب : إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلاً . فحثّه على الخروج إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك . ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك . فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة ، وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريباً من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل . ويقال : ثمانية عشر ألف رجل . ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة ، فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة . فاستأذن عليه . فقال لجاريته : انظري من هذا ؟ فعرفته الجارية فقالت : هذا حيي بن أخطب . فقال : لا تأذني له عليّ . فإنه مشؤوم إنه قد شام قومه ، يريد أن يشأمنا زيادة . فقالت له الجارية : ليس هاهنا ، فقال حيي بن أخطب : بلى هو ثم ولكن عنده قدر جشيش لا يحب أن يشركه فيها أحد . فقال كعب : أحفظني أخزاه الله ، يعني : أغضبني ، إئذني له في الدخول . فدخل عليه ، فقال له : يجيئُك مليكك ، قد جئتك بعارض برد ، جئتك بقريش بأجمعها ، وكنانة بأجمعها ، وغطفان بأجمعها ، لا يذهب هذا الفوز حتى يقتل محمد . فانقض الحلف بينك وبين محمد . فقال له كعب بن الأشرف : إن العارض ليصيب بنفحاته شيئاً . ثم يرجع وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي ، والله ما رأينا جاراً قط خيراً من محمد ، ما أخفر لنا بذمة ، ولا هتك لنا ستراً ولا آذانا ، وإنما أخشى أن لا يقتل محمد ، وترجع أنت وأقتل أنا . فقال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمداً في هذا الغور ، لأدخلنّ معكم حصنكم ، فيصيبني ما أصابكم . فنقض الحلف ، وشقّ الصحيفة ، فقدم بنعيم بن مسعود المدينة ، وكان تاجراً يقدم من مكة . فقال : يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بذلك » . فقال عمر : إن كنت أمرتهم بذلك ، وإن كنت تأمرهم بذلك ، فقتالهم علينا هيّن " . فقال : «مَا أَنا بِكَذَّابٍ ، ولكن الحَرْبَ خُدْعَةٌ » . ونعيم لم يسلم ذلك اليوم . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف ، يناشدوه الله الحلف الذي كان بينهم . وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل . فأبى كعب بن الأشرف ، وجرى بينهم كلام . وسبّ سعد بن معاذ . فقال أسيد بن حضير : أتسب سيدك معاذاً يا عدو الله ؟ ما هو لك بكفؤ . فقال سعد بن : اللهم لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم . فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث .
فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان فقال : يا أبا سفيان والله ما كذب محمد قط كذبة ، أخبرني بأنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة . فقال سلمان الفارسي : إنا كنا يا رسول الله بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود ، خندقنا على أنفسنا ، فهل لك أن تخندق خندقاً ؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة ، وخندق وأخذ المعول بيده ، فضرب لكي يقتدي الناس به . فضرب ضربةً فأبرق برقة ، حتى ظهر ضوء بضربته . ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة ، ثم ضرب الثالثة فقال سلمان : لقد رأيت أمراً عجيباً . لقد رأيت ذلك ؟ قال : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ رَأَيْتُ بِالأولى قُصُورَ الشَّامِ ، وَبِالثَّانِيَةِ قُصُورَ كِسْرَى ؛ وَبِالثَّالِثَةِ قُصُورَ اليَمَنِ . فهذه فُتُوحٌ يَفْتَحُ الله عَلَيْكُمْ » . فقال ناس من المنافقين : يعدنا أن تفتح الشام وأرض فارس واليمن . وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء . ما يعدنا إلا غروراً .
فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة ، فأرسل عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة ، نرجع عنك بغطفان وكنانة ، ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا » . فقال : فنصف ذلك التمر . قال : «نعم » . وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس ، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصين ، والحارث بن عوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب لنا كتاباً . فدعى بصحيفة ليكتب بينهم . فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة : يا رسول الله أوحي إليك في هذا شيء ؟ فقال : «لا ولكنني رَأَيْتُ العَرَبَ رَمَتْكُمْ مِنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَقُلْتُ أَرُدُّ هؤلاء وَأُقَاتِلُ هؤلاء » فقالا : ما رجون بهذا منها في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا شراء وقرًى . فحين زادنا الله بك ، وأمدنا بك ، وأكرمنا بك ، نعطيهم الدنية . لا نعطيهم شيئاً إلا بالسيف . فشق النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة وقال : «اذْهَبُوا فَلا نُعْطِيكُمْ شَيْئاً إلاَّ بِالسَّيْفِ » . فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حييّ بن أخطب أن استعدَّ غداً إلى القتال فقد طال المقام هاهنا ، وقل لقومك يغدوا . فلما جاء بني قريظة الرسول ، فقالوا : غداً يوم السبت لا نقاتل فيه . فقال أبو سفيان : نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد . هاتوا لنا رهوناً أبناءكم نثلج إليهم يعني : نطمئن بذلك . فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة ، وقد أمسوا ، فقالوا : هذه الليلة لا يدخل علينا أحد ولا يخرج من عندنا أحد . فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه حق ، وأن نقض العهد كان مكراً منهم .
فلما كانت الليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال : «مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ القَوْمُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ » . فما تحرك منهم أحد . ثم صلى الثلث الثاني فقال : «من رجل ينظر ما يفعل القوم » فما تحرك منهم أحد ثم صلى ساعة ، ثم هتف مرة أخرى ، فما تحرك منهم إنسان . فقال : «يَا حُذَيْفَةُ » فجاء حذيفة . فقال : «أَمَا سَمِعْتَ كَلامِي مُنْذُ اللَّيْلَة » . قال : بلى . ولكن بي من الجوع والقر يعني : البرد ، لم أقدر على أن أجيبك . قال : «اذْهَبْ فَانْظُرْ ما فَعَلَ القَوْمُ ، وَلاَ تَرْمِي بِسَهْمٍ ، وَلاَ بِحَجَرٍ ، وَلاَ تَطْعَنْ بِرمْحٍ ، وَلاَ تَضْرِبْ بِسَيْفٍ » . فقال : يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني ، إني لميت . ولكن أخشى أن يمثلوا بي . فقال : «لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ » . فلما قال هذا ، قال حذيفة : آمنت وعرفت أنه لا بأس علي . فلما ولى حذيفة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ » . فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش ، فإذا هم يصطلون يعني : مجتمعين على نار لهم . فجلس حذيفة في حلقة منهم . فقال : أتدرون ما يريد الناس غداً ؟ قالوا : ماذا يريدون ؟ قال : يقولون : يعني : أهل العساكر أين قريش ؟ أين سادات الناس وقادتهم ؟ فتجيئون فيطرحونكم في نحور العدو ، فتقتلوا أو تفروا ، فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر .
ثم دخل عسكر بني كنانة . فقال : أتدرون ماذا يريد الناس غداً ؟ قالوا : ماذا يريدون ؟ قال : يقولون أين بنو كنانة ؟ أين ذروة العرب ؟ أين رماة الخندق ؟ فتجيبون . فيطرحونكم في نحور العدو ؟ فتقتلوا أو تفروا .
ثم دخل عسكر غطفان ، فقال : أتدرون ماذا يريد الناس غداً ؟ قالوا ماذا يريدون ؟ قال : يقولون أين غطفان ؟ أين بنو فزارة بن حلاس الخيول ؟ فتجيبوا ، فيطرحونكم في نحور العدو . فتقتلوا أو تفروا .
قال : فبعث الله تعالى عليهم ريحاً شديدة ، فلم تترك لهم خباء إلا قلعته ، ولا إناء إلا أكفأته . وقلعت أوتاد خيولهم ، وجالت الخيول بعضها في بعض ، فقالوا فيما بينهم : لقد بدا محمد بالسر . فالنجاة النجاة . فركب أبو سفيان جمله معقولاً ، فما حلّ عقاله إلا بعد أن انبعث . قال حذيفة : ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت . ولكن نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فترحلوا كلهم وذهبوا . فرجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل الله عز وجل بها . فنزل { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } في الدفع عنكم { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } من المشركين { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } شديدة { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } من الملائكة . وذلك أن الملائكة عليهم السلام كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح ، وهي ريح الصبا . وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «نُصِرْتُ بِالصَّبَا ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ » ثم قال تعالى : { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } في أمر الخندق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.