الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (9)

ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } أي : اذكروا تفضل الله عليكم فاشكروه على ما فعل بكم .

{ وإذ جاءتكم جنود } يعني جنود الأحزاب من قريش وغطفان {[55285]} ويهود بني قريظة وغيرهم .

{ فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } كانت الريح التي نصر بها النبي صلى الله عليه وسلم : الصبا {[55286]} .

قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي تنصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل . قال : فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا {[55287]} .

قال أبو سعيد الخدري : " قلنا يوم الخندق يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ، قال : قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا . قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح . وهزمهم الله بالريح " {[55288]} .

قال ابن عمر : كانت معي يوم الخندق ترس وكان فيها حديد فضربتها الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد .

قال مجاهد : أرسلت على الأحزاب يوم الخندق ريح حتى كفأت قدورهم على أفواهها ونزعت فساطيطهم {[55289]} حتى أظعنتهم {[55290]} {[55291]} .

قال قتادة : { وجنودا لم تروها } يعني : الملائكة ، قال : نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا ، فخندق رسول الله حوله وحول أصحابه خارج المدينة ، وأقبل أبو سفيان بقريش ومن تبعه من الناس حتى نزلوا بعصرة {[55292]} رسول الله .

[ وأقبل عيينة بن حصن {[55293]} أحد بني بدر {[55294]} ومن تبعه من الناس حتى نزل بعصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ] {[55295]} . وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه بذلك حيث يقول تعالى ذكره : { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } فبعث الله عليهم الرعب والريح فذكر لنا أنهم كل ما بنوا قطع الله أطنابه ، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها ، ولكما أوقدوا نارا ، أطفأها الله حتى لقد ذكر لنا أن سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إلي ، حتى إذا اجتمعوا عنده قال : النجاء أتيتم ، لما بعث الله عليهم من الرعب {[55296]} .

قال ابن إسحاق : كانت الجنود قريشا وغطفان وبني قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح : الملائكة ، وكانت الريح مع قوتها شديدة البرد ، وكان في ذلك أعظم آية النبي صلى الله عليه وسلم .

وكان سبب الأحزاب : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير إلى خيبر ، وكانوا قد سادوا العرب وعرفوا بكثرة المال ، وهم من بني هارون النبي عليه السلام ، فلما انتقلوا إلى خيبر ، وحول خيبر من العرب أسد {[55297]} وغطفان حزبت اليهود على النبي العرب من أسد وغطفان وغيرهم .

وخرجوا في ستة آلاف ، ثم تدرج كبراء اليهود إلى مكة فحزبوا قريشا على النبي عليه السلام ، وأتبعتهم كنانة {[55298]} واجتمعوا في نحو عشرة آلف وأتوا المدينة ، فنزلوا عليها ، فخندق النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وكان إخوة بني/ النضير من قريظة وادعوا النبي عليه السلام فلم يزل بهم بنو النضير حتى نقضوا العهد وعاونوهم على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } {[55299]} ، أي من حصونهم فأرسل الله على جميعهم الريح فزعزعتهم وانقلبوا خائبين ، ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم إلى محاصرة قريظة الذين أعانوا عليه ونقضوا عهده فحاصرهم ونزلوا على حكم سعد {[55300]} ، وكانوا ست مائة ، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار {[55301]} .

قال مالك : كانت وقعة الخندق سنة أربع {[55302]} .

وقال ابن إسحاق {[55303]} : فكانت وقعة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة خمس {[55304]} .

قال مالك : كان الخندق وقريظة في يوم واحد ، انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من وقعة الخندق ، وقد انصرف المشركون ، فاغتسل فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فقال له : أوضعت اللأمة {[55305]} ولم تضعها الملائكة ، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة ، فخرج إليهم ، فحكموا سعدا فيهم ، فحكم بسبي الذراري وقتل الرجال ففعل بهم ذلك {[55306]} .

وروى ابن وهب عن مالك أنه قال : كانت وقعة أحد على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة ، وعند مصرف النبي عليه السلام من أحد خرج إلى بني النضير وأجلاهم إلى خيبر وإلى الشام على صلح وقع بينهم قد ذكر في غير هذا الموضع .

ثم قال : { وكان الله بما تعملون بصيرا } أي : بأعمالكم في ذلك اليوم وغيره ، بصير لا يخفى عليه شيء .


[55285]:غطفان: بطن عظيم من قيس عيلان من العدنانية، كانت منازلهم بنجد مما يلي وادي القرى وجبل طيء انظر: نهاية الأرب 388، ومعجم قبائل العرب 3/888
[55286]:ورد في الصحاح مادة (صبا) 6/2398، "الصبا ريح ومهبها المستوي أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ونيحتها الدبور" انظره في مادة (صبا) في اللسان 14/451
[55287]:انظر: جامع البيان 21/127، والجامع للقرطبي 14/144، وتفسير الخازن 5/233، وتفسير ابن كثير 3/471
[55288]:أخرجه أحمد في مسنده3/3 وأورده الطبري في جامع البيان 21/127، وابن عطية في المحرر الوجيز 13/54، والطبري في مجمع البيان 21/103، وابن كثير في تفسيره 3/473، والسيوطي في الدر المنثور 6/573
[55289]:الفسطاط بيت من شعر انظر: اللسان مادة "فسط" 7/371
[55290]:جاء في اللسان مادة (ظعن) 13/270" ظعن يظعن ظعنا وظعنا بالتحريك، وظعونا: ذهب وسار...".
[55291]:انظر: الدر المنثور 6/513 وتفسير مجاهد 548
[55292]:العصرة بالضم الملجأ، وعصر الشيء واعتصر به لجأ إليه انظر: مادة "عصر" في الصحاح 2/749 واللسان 4/580
[55293]:هو عيينة بن حصن، واسمه حذيفة، وسمي عيينة لشتر كان في عينيه، وهو قائد غطفان يوم غزوة الأحزاب، أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرا، فأتي أبا بكر رضي الله عنه أسيرا فمن عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته حتى مات. انظر: سيرة ابن هشام 1/215، والروض الأنف 3/276
[55294]:هم بنو بدر بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن ريث بن غطفان بن قيس بن عيلان. كانت فيهم رئاسة بني فزارة في الجاهلية، ويرأسون جميع غطفان. انظر: معجم قبائل العرب 1/ 68 ـ 69
[55295]:ما بين المعقوفين مثبت في طرة أ مع الإشارة إلى مقابلته على الأم.
[55296]:انظر: جامع البيان 21/128وتفسير ابن كثير 3/471، والدر المنثور 6/576
[55297]:أسد قبيلة عظيمة من العدنانية كانت بلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد وفي مجاورة طيء، تعد من القبائل الحربية، فقد سجل لها التاريخ كثيرا من الحروب والغزوات في الجاهلية والإسلام انظر: نهاية الأرب 37 ـ 38، ومعجم قبائل العرب 1/21 ـ 22
[55298]:كنانة قبيلة عظيمة من العدنانية، وهم بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان كانت ديارهم بجهات مكة. انظر: معجم قبائل العرب 3/996
[55299]:الأحزاب: آية 26
[55300]:هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأنصاري الأوسي، صحابي من الأبطال من أهل المدينة. كانت له سيادة الأوس، وحمل لواءهم يوم بدر، وشهد أحدا فكان ممن ثبت فيها. ورمي بسهم يوم الخندق فمات من أثر جرحه، ودفن بالبقيع. انظر: طبقات ابن سعد 3/420، والإصابة 2/37، 3204
[55301]:انظر: سيرة ابن هشام 2/239 ـ 240
[55302]:انظر: الجامع للقرطبي 14/128، والبحر المحيط 216، وفتح القدير 4/265
[55303]:هو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني، من أقدم مؤرخي العرب من أهل المدينة، وهو صاحب كتاب: "السيرة النبوية" وهو من أحسن الناس سياقا للأخبار توفي سنة 151 هـ انظر: وفيات الأعيان 4/276 وتذكرة الحفاظ 1/172
[55304]:انظر: سيرة ابن هشام 3/214، وأحكام ابن العربي 3/1510، ومجمع الزوائد للهيثمي: كتاب المغازي والسير باب: تاريخ الخندق 6/145، والجامع للقرطبي 14/128، والبحر المحيط 7/216
[55305]:اللأمة هي الدرع. انظر: الصحاح مادة "لأم" 4/2026
[55306]:انظر: أحكام ابن العربي 3/1510 ـ 1511وقول مالك هذا هو في أصله حديث نبوي أورده أبو نعيم في دلائل النبوة 2/505 والهيثمي في مجمع الزوائد كتاب المغاري والسير باب: غزوة الخندق وقريظة 6/140