قوله تعالى : { فإما تثقفنهم } ، تجدنهم .
قوله تعالى : { في الحرب } ، قال مقاتل : إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم ، { فشرد بهم من خلفهم } ، قال ابن عباس : فنكل بهم من وراءهم . وقال سعيد بن جبير : أنذر بهم من خلفهم . وأصل التشريد : التفريق والتبديد ، معناه فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل بهؤلاء الذي نقضوا عهدك وجاؤوا لحربك فعلاً من القتل والتنكيل ، يفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن .
قوله تعالى : { لعلهم يذكرون } ، يتذكرون ويتعظون ، ويعتبرون ، فلا ينقضون العهد .
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم ، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم ، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم ، والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين ، مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع :
( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) . .
وإنه لتعبير عجيب ، يرسم صورة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد ، وانطلقوا من ضوابط الإنسان ، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً ، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة ، ولا بد له من قوة ، ولا بد له من سطوة ، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت ، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
وفي « شرح الرضي على الحاجبية » ، عن بعض النحاة : لا يجيء ( إمّا ) إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى : { فإما ترين } [ مريم : 26 ] . وقال ابن عطية في قوله : { فإما تثقفنهم } دخلت النون مع إما : إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو .
وقلت : دخول نون التوكيد بعد ( إنْ ) المؤكَّدةِ بما ، غالب ، وليس بمطّرد ، فقد قال الأعشى :
إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لنا *** إنَّا كذلكِ ما تَحفى وننتعل
فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد .
والثقف : الظفَر بالمطلوب ، أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب ، أي انتصرت عليهم .
والتشريدُ : التطريد والتفريق ، أي : فبعِّد بهم مَن خلفهم ، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير .
وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال ، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] . وقد علم أنّ متعلّق تشريد { من خَلفهم } هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد .
والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع ، ونظيره ( الوراء ) . في قول ضمّام بن ثعلبة : « وأنا رسول من ورائي » . وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم « فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا » ، والمعنى : فاجعلهم مثَلاً وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية ، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل .
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه ، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين ، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم ، لأنّهم استحقّوها . وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين . فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين ، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .
وضمير الغيبة في { لعلهم يذكرون } راجع إلى { من } الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس .
والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد ، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال ، ، فلا يقدموا على نقض العهد ، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار ، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.