قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قال الكلبي : عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه ، فصامه شكراً لله عز وجل .
قوله تعالى : { فأتوا } فمروا .
قوله تعالى : { على قوم يعكفون } يقيمون ، قرأ حمزة والكسائي { يعكفون } بكسر الكاف ، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان .
قوله تعالى : { على أصنام } أوثان .
قوله تعالى : { لهم } ، يعبدونها من دون الله . قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر ، وذلك أول شأن العجل ، قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولاً بالرقة ، فقالت بنو إسرائيل ما رأوا ذلك { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً } أي : مثالاً نعبده .
قوله تعالى : { كما لهم آلهة } ، ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله ، وإنما معناه : اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله ، وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة ، وكان ذلك لشدة جهلهم .
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال : إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء مُتَبَّرُ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ؟ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب : يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
إنه المشهد السابع في القصة - مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر - ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم ؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم . . إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه ؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين - الذي أهلك عدوهم ؛ وشق لهم البحر ؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون . . إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين ، عاكفين على أصنام لهم ، مستغرقين في طقوسهم الوثنية ؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد ، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد !
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . قالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) !
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام ! ولكنها لاتصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية . وطبيعة بني إسرائيل - كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات - طبيعة مخلخلة العزيمة ، ضعيفة الروح ، ما تكاد تهتدي حتى تضل ، وما تكاد ترتفع حتى تنحط ، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس . . ذلك إلى غلظ في الكبد ، وتصلب عن الحق ، وقساوة في الحس والشعور ! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك ، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى - عليه السلام - بالتوحيد - فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر - بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين ! وهؤلاء كانوا وثنيين ، وباسم هذه الوثنية استذلوهم - حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم : ( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ ) ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم : رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه . . آلهة ! ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة . . ولكنما هي إسرائيل ! . .
ويغضب موسى - عليه السلام - غضبة رسول رب العالمين ، لرب العالمين - يغضب لربه - سبحانه - ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه ! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب :
ولم يقل تجهلون ماذا ؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل . . الجهل من الجهالة ضد المعرفة ، والجهل من الحماقة ضد العقل ! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة ؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد ؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق . .
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر ؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر . فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس ، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر - وفق المنهج الصحيح - وما يغفل عن ذلك كله ، أو يعرض عن ذلك كله ، إلا الحمقى والجهال . ولو ادعوا " العلم " كما يدعيه الكثيرون !
وقرأ جمهور الناس «وجاوزنا » وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وجوزنا » ذكره أبو حاتم والمهدوي ، والمعنى قطعناه بهم وجزعناه وهذه الآية ابتداء خبر عنهم ، قال النقاش : جاوزوا البحر يوم عاشوراء ، وأعطي موسى التوراة يوم النحر القابل بين الأمرين أحد عشر شهراً ، وروي أن قطعهم كان من ضفة البحر إلى ضفة المناوحة للأولى وروي أنه قطع من الضفة إلى موضع آخر منها .
قال القاضي أبو محمد : فإما أن يكون ذلك بوحي من الله وأمر لينفذ أمره في فرعون وقومه وهذا هو الظاهر ، وإما بحسب اجتهاد موسى في التخلص بأن يكون بين وضعين أوعار وحايلات ، ووقع في كتاب النقاش أنه نيل مصر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لا تساعده رواية ولا يحتمله لفظ إلا على تحامل ، وإنما هو بحر القلزوم و «القوم » المشار إليهم في الآية العرب ، قيل هم الكنعانيون ، وقال قتادة وقال أبو عمرو الجوني : هم قوم من لخم وجذام ، والقوم في كلام العرب الرجال خاصة ، ومنه قول زهير :
ولا أدري وسوف إخال أدري*** أقوم آل حصن أم نساء
ومنه قوله عز وجل : { لا يسخر قوم من قوم*** . ولا نساء من نساء } وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يعكُفون » بضم الكاف ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية عبد الوارث عنه «يعكِفون » بكسرها وهما لغتان والعكوف : الملازمة بالشخص لأمر ما والإكباب عليه ، ومنه الاعتكاف في المساجد ومنه قول الراجز «[ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . *** عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُون الفَنْزَجَا
والأصنام في هذه الآية قبل كانت بقراً على الحقيقة ، وقال ابن جريج : كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من مقالة بني إسرائيل لموسى : { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } أنهم استحسنوا ما رأوه من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به إلى الله ، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى : اجعل لنا صنماً نفرده بالعبادة ونكفر بربك ، فعرفهم موسى أن هذا جهل منهم إذ سألوا أمراً حراماً فيه الإشراك في العبادة ومنه يتطرق إلى إفراد الأصنام بالعبادة والكفر بالله عز وجل ، وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي قصه النبي صلى الله عليه وسلم في قول أبي واقد الليثي له في غزوة حنين إذ مروا على دوح سدرة خضراء عظيمة : اجعل لنا يا رسول الله ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ولها يوم يجتمعون إليها فيه ، فأراد أبو واقد وغيره أن يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ذريعة إلى عبادة تلك السرحة ، فأنكره وقال : » الله أكبر قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لتتبعن سنن من قبلكم .
قال القاضي أبو محمد : ولم يقصد أبو واقد بمقالته فساداً ، وقال بعض الناس كان ذلك من بني إسرائيل كفراً ولفظة الإله تقتضي ذلك ، وهذا محتمل ، وما ذكرته أولاً أصح عندي والله تعالى أعلم .
لما تمت العبرة بقصة بعث موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ، وكيف نصره الله على عدوه ، ونصر قومه بني إسرائيل ، وأهلك عدوهم كشأن سنة الله في نصر الحق على الباطل ، استرسل الكلام إلى وصف تكوين أمة بني إسرائيل وما يحق أن يعتبرَ به من الأحوال العارضة لهم في خلال ذلك مما فيه طمأنينةُ نفوس المؤمنين الصالحين في صالح أعمالهم ، وتحذيرهم مما يرمي بهم إلى غضب الله فيما يحقرون من المخالفات ، لما في ذلك كله من التشابه في تدبير الله تعالى أمور عبيده ، وسنته في تأييد رسله وأتباعهم ، وإيقاظ نفوس الأمة إلى مراقبة خواطرهم ومحاسبة نفوسهم في شكر النعمة ودحض الكفران .
والمجاوزة : البعد عن المكان عقب المرور فيه ، يقال : جَاوز بمعنى جاز ، كما يقال : عَالى بمعنى علا ، وفعله متعد إلى واحد بنفسه وإلى المفعول الثاني بالباء فإذا قلت : جُزتُ به ، فأصل معناه أنك جزته مصاحباً في الجواز به للمجرور بالباء ، ثم استعيرت الباء للتعدية يقال : جُزت به الطريق إذا سهلت له ذلك وإن لم تسر معه ، فهو بمعنى أجزته ، كما قالوا : ذَهبت به بمعنى أذهبته ، فمعنى قوله هنا : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قدرنا لهم جَوازه ويسرّناه لهم .
والبحر هو بحر القُلْزُم المعروف اليوم بالبحر الأحمر وهو المراد باليمّ في الآية السابقة ، فالتعريف للعهد الحضوري ، أي البحر المذكور كما هو شأن المعرفة إذا أعيدت معرفة ، واختلاف اللفظ تفنن ، وتجنباً للإعادة ، والمعنى : أنهم قطعوا البحر وخرجوا على شاطئه الشرقي .
و { أتوا على قوم } معناه أتَوْا قوماً ، ولما ضمن { أتَوْا } معنى مروا عدي بعلى ، لأنهم لم يقصدوا الإقامة في القوم ، ولكنهم ألْفَوهم في طريقهم .
والقوم هم الكنعانيون ويقال لهم عند العرب العمالقةُ ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين .
والأصنام كانت صُورَ البقر ، وقد كان البقر يعبد عند الكنعانيين ، أي الفنيقيين باسم ( بَعل ) ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { ثم اتخذتم العجل من بعده } في سورة البقرة ( 51 ) .
والعُكوف : الملازمة بنية العبادة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } في سورة البقرة ( 187 ) ، وتعدية العكوف بحرف ( على ) لما فيه من معنى النزول وتمكنه كقوله : { قالوا لن نبرح عليه عاكفين } [ طه : 91 ] .
وقريء { يعكفون } بضم الكاف للجمهور ، وبكسرها لحمزة والكسائي ، وخَلف ، وهما لغتان في مضارع عَكف .
واختير طريق التنكير في أصنام ووصفُه بأنها لهم ، أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة ، لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة .
وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يُقتصر على قوله : { أصنام } قال ابن عرفة التونسي : « عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلاههم » .
وفُصلت جملة { قالوا } ، فلم تعطف بالفاء : لأنها لما كانت افتتاح محاور ، وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها ، ولو عطفت بالفاء لجاز أيضاً .
ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه ، إظهاراً لرغبتهم فيما سيطلبون ، وسموا الصنم إلاهاً لجهلهم فهم يحْسبون أن اتخاذ الصنم يُجدي صاحبه ، كما لو كان إلاهُه معَه ، وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله : { فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلاّ أنهم خدمة وعبيد .
والتشبيه في قوله : { كما لَهم آلهة } أرادوا به حَض موسى على إجابة سؤالهم ، وابتهاجاً بما رأوا من حال القوم الذين حَلّوا بين ظهرانيهم وكفَى بالأمة خسّةَ عقول أن تعُد القبيح حسناً ، وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها ، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها .
و { ما } يجوز أن تكون صلة وتوكيداً كافة عمل حرف التشبيه ، ولذلك صار كاف التشبيه داخلاً على جملة لا على مفرد ، وهي جملة من خبر ومبتدأ ، ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية غير زمانية ، والجملة بعدها في تأويل مصدر ، والتقدير كوجود آلهة لهم ، وإن كان الغالب أن ( ما ) المصدرية لا تدخل إلاّ على الفعل نحو قوله تعالى : { ودوا ما عنَتّم } [ آل عمران : 118 ] فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله : { لهم } أو يكتفَى بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جازا ومجروراً ، كقول نهْشَل بن جرير التميمي :
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه{[240]}
وفصلت جملة { قال إنكم قوم تجهلون } لوقوعها في جواب المحاورة ، أي : أجاب موسى كلامهم ، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله : { إنكم قوم تجهلون } لأن ذلك هو المناسب لحالهم .
والجهل : انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته ، وتقدم في قوله تعالى : { للذين يعملون السوء بجهالة } في سورة النساء ( 17 ) ، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام ، وكانَ وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكداً لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم ، ولولا ذلك لكان لهم في باديء النظر زاجر عن مثل هذا السؤال ، فالخبر مستعمل في معنييه : الصريح والكناية ، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم .
وفي الإتيان بلفظ { قوم } وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفاً لقوم ، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم ، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم ، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم ( بإن ) لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامعُ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر}، يعني النيل، نهر مصر، {فأتوا على قوم يعكفون}، يعني فمروا على العمالقة يقيمون {على أصنام لهم} يعبدونها، فقالت بنو إسرائيل: {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها} نعبده، {كما لهم آلهة} يعبدونها، {قال إنكم قوم تجهلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الآيات التي أريناهموها والعبر التي عاينوها على يدي نبيّ الله موسى، فلم تزجرهم تلك الآيات ولم تعظهم تلك العبر والبينات حتى قالوا مع معاينتهم من الحجج ما يحقّ أن يذكر معها البهائم، إذ مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، يقومون على مثل لهم يعبدونها من دون الله، اجعل لنا يا موسى إلها، يقول: مثالاً نعبده وصنما نتخذه إلها، كما لهؤلاء القوم أصنام يعبدونها، ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار. وقال موسى صلوات الله عليه: إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجب حقه عليكم، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض...
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري أن أبا واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل حنين، فمررنا بِسْدرَة، قلت: يا نبيّ الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللّهُ أكْبَرُ هَذَا كمَا قالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى:"اجْعَلْ لَنا إلَها كمَا لَهمْ آلهَةٌ"، إنّكُمْ سَترْكَبُونَ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المجاوزة: الإخراج عن الحد يقال: جاوز الوادي جوازا إذا قطعه وخلفه وراءه. وهذا الطلب منهم يدل على جهل عظيم من بني إسرائيل بعد ما رأوا الآيات التي توالت على فرعون وقومه حتى غرقهم الله في البحر بكفرهم بعد ما نجّى بني اسرائيل، فلم يردعهم ذلك عن أن قالوا لموسى (عليه السلام) "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم تَخْلُصْ في قلوبهم حقائقُ التوحيد فتاقت نفوسهم إلى عبادة غير الله، حتى قالوا لنبيِّهم موسى -عليه السلام -: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وكذا صفة من لم يتحرر قلبُه من إثبات الأشغال والأعلال، ومن المساكنة إلى الأشكال والأمثال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ} فمرّوا عليهم. {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} يواظبون على عبادتها ويلازمونها. {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال: {إنكم قوم تجهلون} وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وأتى بلفظ {تجهلون} ولم يقل جهلتم إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه بذلك، علم السامع أنهم بين أمرين: إما شكر وإما كفر، فتشوف إلى ما كان منهم، فأجاب سبحانه سؤاله بقوله: {قالوا} أي لم يلبث ذكرهم لما أراهم سبحانه من عظمته وشكرهم لما أفاض عليهم من نعمته إلا ريثما أمنوا من عدوهم بمجاوزتهم البحر وإغراقهم فيه حتى طلبوا إلهاً غيره بقولهم: {يا موسى} سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة اعتماداً على ما عمهم من بره وحلمه غير متأدبين بما بهرهم من جلالة حظه من الله وقسمه {اجعل لنا إلهاً} أي شيئاً نراه ونطوف به تقيداً بالوهم {كما لهم آلهة} وهذا منهم قول من لا يعد الإله -الذي فعل معهم هذه الأفاعيل- شيئاً، ولا يستحضره بوجه. ولما كان هذا منهم عظيماً، استأنف جواب من تشوف إلى قول موسى عليه السلام لهم ما هو بقوله: {قال إنكم قوم} أي ذوو قيام في شهوات النفوس
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وصفهم بالجهل، لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله. ولكن هؤلاء القوم، أعني بني إسرائيل، أشد خلق الله عناداً وجهلاً وتلوّناً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... قصة موسى مع بني إسرائيل هذه الآيات وما بعدها شروع في قصة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ.
فتعظيم الشيء الذي يعتقد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو ثوب أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرب إليه وقصد الانتفاع به في الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة- وهي ما لا يطلب إلا من الله تعالى أو لأجل التقرب إلى الله تعالى بجاهه –كل ذلك عبادة ظاهرة، فإن قصد المعظم لذلك الشيء أو لما يذكر به الانتفاع به نفسه بما ذكر من التعظيم بالقول كالدعاء والاستغاثة أو بالفعل كالطواف بتمثاله أو قبره و تقبيله والتمرغ بأرضه –كانت وهذا النوع من الجهل هو الذي قال الله تعالى فيه: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] وإسناد الجهل إلى القوم أبلغ من إسناده إلى ضمير المخاطبين لأنه حكم على جماعتهم، بما هو كالمتحقق المعروف من حالهم، الذي هو علة لمقالهم، يدخل فيه الذين سألوه ذلك منهم دخولا أوليا. العبادة خالصة له من دون الله، وإن قصد التقرب به إلى الله تعالى ليحمله بجاهه على إعطائه ما يريد معنى النظم الكريم: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) إنهم تجاوزوه بعنايته سبحانه وتأييده إياهم بفلق البحر، وتيسير الأمور، حتى كأنه كان معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم، أو المعنى إننا أيدناهم ببعض ملائكتنا، فجاوز بهم البحر بأمرنا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"في هذا الدرس تمضي قصة موسى -عليه السلام- في حلقة أخرى.. مع قومه بني إسرائيل؛ بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم؛ وأغرق فرعون وملأه؛ ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون.. إن موسى -عليه السلام- لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه؛ فقد انتهت المعركة مع الطاغوت.. ولكنه يواجه معركة أخرى -لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً- إنه يواجه المعركة مع" "النفس البشرية!" "يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس؛ ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل؛ وملأها بالالتواء من ناحية؛ وبالقسوة من ناحية؛ وبالجبن من ناحية؛ وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً؛ ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء! ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً؛ عاشوا في ظل الإرهاب؛ وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك. عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال. وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر.. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان.. لقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس: ""ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم "".. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيداً للحكام.. إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله.. ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني؛ ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني.. ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر.. فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص -فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر -لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه -من ابن فاتح مصر وحاكمها- وسافر شهراً على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب -الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه! -وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان- وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان -حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام- كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم؛ وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح. عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة -بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر- وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل؛ وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية؛ وتواجه موسى -عليه السلام- بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل! وسنرى متاعب موسى -عليه السلام- في المحاولة الضخمة التي يحاولها؛ وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلا، حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلا، وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره! وسنرى من خلال متاعب موسى -عليه السلام- متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوساً طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت -وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلا لا روح فيه! إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال -لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك.. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة! ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة. لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل. ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل."
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام! ولكنها لاتصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية. وطبيعة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات -طبيعة مخلخلة العزيمة، ضعيفة الروح، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما تكاد ترتفع حتى تنحط، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس.. ذلك إلى غلظ في الكبد، وتصلب عن الحق، وقساوة في الحس والشعور!وها هم أولاء على طبيعتهم تلك، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى- عليه السلام -بالتوحيد- (قال: إنكم قوم تجهلون).. ولم يقل تجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل.. الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود! وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق.. إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر. فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر -وفق المنهج الصحيح- وما يغفل عن ذلك كله، أو يعرض عن ذلك كله، إلا الحمقى والجهال. ولو ادعوا "العلم" كما يدعيه الكثيرون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} قدرنا لهم جَوازه ويسرّناه لهم. والعُكوف: الملازمة بنية العبادة والتشبيه في قوله: {كما لَهم آلهة} أرادوا به حَض موسى على إجابة سؤالهم، وابتهاجاً بما رأوا من حال القوم الذين حَلّوا بين ظهرانيهم وكفَى بالأمة خسّةَ عقول أن تعُد القبيح حسناً، وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها. والجهل: انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام.
وكانَ وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكداً لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم، ولولا ذلك لكان لهم في بادئ النظر زاجر عن مثل هذا السؤال وفي الإتيان بلفظ {قوم} وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفاً لقوم، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم (بإن) لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامعُ.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{إنكم قوم تجهلون} وكلمة "تجهلون "في هذا السياق إما من الجهل ضد العلم، وإما من الجهال بمعنى السفه، على حد قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره}.
هذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء، كأن الإله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ عليهم من النعم الكثير، وهذه أول خيبة، وهم يريدون أن يكون الإله مجعولا رغم أن الإله بكمالاته وطلاقة قدرته جاعل، ولكن عقليتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها الإيمان...
{إنكم قوم تجهلون} ولم يقل لهم:"لا تعلمون" بل قال: "تجهلون "لأن هناك فارقا بين عدم العلم بالشيء، وبين الجهل بالشيء، فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خاليا من أي قضية، أما "الجهل" فهو يعني أن تعلم مناقضا للقضية، إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية. أما الذي لا يعلم فليس في باله قضية، وحين تأتي له القضية يقتنع بها، ولا يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل الأمي مثلا الذي لا يعلم، لأن ذهنه خال من قضية، أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من الرسول إلى عمليتين عقليتين: الأولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يرهق العالم هم الجهلاء لا الأميون، لأن الأمي حين تعطي له المعلومة فليس عنده ما يناقضها. لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلم تكن رحلتهم مع موسى رحلة إيمان يبحث عن الحقيقة، بل كانت رحلة اضطهادٍ يبحث عن الخلاص. كان الإيمان مجرد واجهةٍ، وكانت الرسالة مجرد وسيلةٍ للوصول إلى الحرية. وكان موسى نبيّاً، ولكنهم كانوا يتحركون معه من موقع القائد الذي يريدونه أن يربح المعركة ضد العدوّ، لا من موقع الرسول الذي يريد أن يحقق من خلالهم في الانتصار على العدوّ المتألّه الطاغي أهداف رسالته في كيف تحمل سرّ الألوهة؟ ومن أين تحصل على القوة والقدرة؟ إنه الجهل والغفلة والسذاجة، ذلكم هو عذركم في هذا العرض وفي هذا التمني الأخرق تغيير الحياة والإنسان على أساس وحي الله. كانوا يشعرون في ما يبدو أن النبوّة سلاح في المعركة ضد فرعون، لا حقيقةٌ إلهيّة في الحياة ضد كل ما هو زيفٌ في الفكر وفي الواقع، وهذا ما واجهه موسى في بداية التجربة الأولى في الأجواء الجديدة، حيث استيقظت كل رواسب الصنميّة في الأعماق، وبدأت تتحرك على السطح لتتحول إلى نداءٍ متوسّل إلى موسى في القيام بصناعة أصنام لهم لتكون آلهة يعبدونها، كما للآخرين آلهة. {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، لأنكم لم تعرفوا حقيقة الألوهية في معناها المطلق، من حيث إن الله يخلق كل شيء، ويحيط بكلّ شيء، وليس كمثله شيء، وليس بينه وبين أحدٍ من عباده قرابةٌ ليكون واسطةً بينه وبينه، فلا معنى لأن يعبد أحدٌ أحداً ليقرّبه إلى الله زلفى، لأن العمل المتحرك في خط الإيمان، هو الذي يقرب العبد من ربه، وبذلك لا معنى لإعطاء هذه التماثيل الحجرية والخشبية والذهبية والنحاسية والفضية معنى الألوهة، فهي مخلوقة لله بمادتها، ومصنوعة للإنسان بشكلها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الاقتراح على موسى بصنع الوثن: في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الانتصار على الفرعونيين، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97)، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة. وفي الحقيقية فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسى (عليه السلام) وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.
وهنا لابدّ من الانتباه إلى نقاط:
أرضية الوثنية عند بني إسرائيل لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سبباً لأنواع المفاسد والشقاء، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإِسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغاً. 3 الكفرة بالنعم في بني إسرائيل: الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أُتي بها موسى (عليه السلام)، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإِلهية التي خصّهم الله بها، فإنّه لم ينقصِ عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأُمور دفعة واحدة، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها!!...